فتحت مصر وأرجو أن يصير بها ... ميسرا فتح بيت القدس عن كثب
وكتبت إلى صلاح الدين كلمة أولها:
لو أن عذرى لك يالاح لاح ... ما كنت عن سكري يا صاح صاح
وما شقائي وسقامي سوى ... لواحظ الغيد المراض الصحاح
قال: وكتب لأسد الدين منشوراً من القصر كتب العاضد في طرته بخطه هذا عهد لا عهد لوزير بمثله وتقلد أمانة رآك فلان أهلا لحملها فخد كتابك بقوة واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة واتخذ للفوز سبيلاً (ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) .
يوم الأحد الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وولاية صلاح الدين في الخامس والعشرين منها قال: ولما تسنى أمر أسد الدين وعلا سنا سلطانه وملك بملكه زمام زمانه وقر غرار الكرى وغرار الظبي في أجفانه فاجأه القدر وجاءه الكدر في صفائه وقضى القضاء لأمل بانقضائه فخمدت ناره وغاض ماؤه وتوفى يوم الأحد الثاني والعشرين من جمادى الآخرة.
ولما فرغ العسكر بعد ثلاثة أيام من التعزية اختلفت آراؤهم واختلطت أهواؤهم فاجتمعت الأمراء النورية على كلمة واحدة وأيد متساعدة وعقدوا لصلاح الدين وقالوا هذا مقام عمه وألزموا صاحب القصر بتوليته ونادت السعادة بتلبيته. وشرع في ترتيب الملك وترتيبه، وفض ختوم الخزائن وفرق ما جمعه أسد الدين في حياته، ورأى أولياءه تحت ألويته وراياته وأحبوه ولم تزل محبته غالبة على مهابته وهو يبالغ في تقريبهم كأنهم ذوو قرابته وما زاده الملك إلا ترفعا وما زاده إلا تأصلا في السماح وتفرعا. وكتب له العاضد من القصر منشور الوزارة (170ب) ولقبه بالملك الناصر ومن ألفاظ هذا المنشور في مخاطبته صلاح الدين: فيومك واسطة في المجد (بين يديك) فامسك وكل ناد من أندية الفخار لك أن تقول فيه ولغيرك أن يمسك فبشراك أن أنعمة موصولة بوالد وولد وأن شمس ملكه بكم كالشمس أقوى ما كانت في بيت الأسد.
قال: وكان بالقصر أستاذ له على حكم القصر ستحوز وبدا من شرار شره دخان ومن رشاش كيده رذاذ، وتآمر هو ومن شايعه على أن يكاتبوا الفرنج فكتبوا ملطفات بالاستدعاء وسيروها على سبيل الخفاء فأتفق أن رجلاً من التركمان عبر بالبيضاء فرأى نعلين جديدين مع إنسان فأخذهما على سبيل الامتحان. وقال: لو أنهما للبسة لكان بهما أثر استعمال فأخدهما وجاء بهما إلى صلاح الدين ووصف الحال فأمر بنقبهما ووجد في طيهما أحرفا مكتوبة وتأملها فإذا هي الفرنج من القصر وكان مقصودهم أن صلاح الدين إذا سمع بخروج الفرنج خرج إلى القتال ويخرجون وراءه لانتهائه ويقدم الفرنج على لقائه ويأخذون أمامه والمصريون من ورائه فأخذ الكتاب وقال: دلونى على كاتب هذا فدلوه على يهودي من الرهط فلما أحضروه ليسألوه ويعاقبوه قدم التلفظ بالشهادتين والدخول في عصمة الإسلام ثم اعترف بما جناه وأن الآمر به مؤتمن الخلافة فرأى إخفاء هذا السر واستشعر الخصى فما صار يخرج من القصر مخافة وإذا خرج لم يبعد مسافة وصلاح الدين عليه مغضب وعنه إلى أن استرسل. وكان له قصر يقال له الخرقانية فخلا فيه يوما للذة له ولم يدر أنه يوم ذلته فانهض إليه صلاح الدين من اخذ رأسه ونزع من حياته.
لباسه وذلك في يوم الأربعاء العشرين من ذي القعدة سنة أربع وستين ولما قتل ثار السودان وثأروا يوم الخميس يوم قتله وكانوا أكثر من خمسين ألف من كل أخضر ينظر من عينه الموت الأحمر، وأغبر لا يجلوه إلا اليوم الأغبر. وكانوا إذا قاموا على وزير قتلوه فحسبوه أن كل بيضاء شحمه وأن كل سوداء فحمة فأقبلوا ولضرامهم حجمه ولضرابهم فحمه فقال أصحابنا: هذا مبدأ الروع وريعانه وعنفوان العنف وعنوانه فهاجموا إلى الهيجاء وكان المقدم الأمير أبو الهيجاء السمين فاتصلت الحرب بين القصرين وأحاطت العسكرية بهم من الجانبين ودام الشر يومين حتى أحس الأساحم بالحين كلما لجأوا إلى محله أحرقوها عليهم وحووا ما حواليهم أحرجوا وأخرجوا إلى الجيزة وأذلوا بالنفس عن منازلهم العزيزة وذلك يوم السبت الثامن والعشرين من الشهر فما خلص السودان بعدها من الشدة ولم يجدوا إلى الخلاص سبيلا وأين ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا.