ومنه أصدرت هذه الخدمة يوم الجمعة التي أقيمت فيه الخطبة بالاسم الكريم وصرح فيه بذكره في الموقف العظم والجمع الذي لا لغو فيها ولا تأثيم وأشبه يوم الخادم أمسه في الخدمة ووفي ما لزمه من حقوق النعمة وجمع كلمة الإسلام عالماً أن الجماعة رحمة والله تعالى يأخذ ملك المولى الملك الصلاح ويصلح به (1169) وعلى يديه ويؤكد عهود العلماء الراهنة لديه ويجعل للإسلام باقية واقية عليه، ويوفق الخادم لما ينويه من توثيق سلطانه وتشييده ومضاعفة ملكه ومزيده وييسر منال كل أمل صالح وتقريب بعيده.
قال: ولما وصل صلاح الدين ما كتب إليه من الكتب الصالحية لم يعجبه ما جرى مع الفرنج من المهاداة والمهادنة وتأثر قلبه بما آثرته قلوبهم وكيف اندملت ندوبهم إلى جماعة من الأعيان بالشام كتباً دالة على التوبيخ والملام.
قال: ولما توفي نور الدين رحمه الله اختل أمري وأعتل سري وفاض دمعي وغاض بحري وغلب حسادي وبلغ مرادهم أضدادي. وكان لملك الصالح صغيراً فصار العدل ابن العجمي وزيراً وتصرف المخالفون في الخزانة والدولة كما أرادوا وولوا وصرفوا ونقصوا وزادوا واقتصروا بي على الكتابة محروم الدعوة من الإجابة فمشيت أمرهم على عرج وتجلدت على كربهم منتظر فرج وفي عزمي العود إلى العراق وشاقني إليه لاعج الأشواق ومما نظمته في تلك الأيام قبل الخروج من دمشق في العشرين من ذي الحجة في الشوق والحنين نور الدين:
ترى يجتمع الشمل ترى يتفق الوصل ... ترى العيش الذي مر مريراً بعدهم يحلو
ترى من شاغل الهم فؤادي المبتلى يخلو ... بغيري شغلوا عني وعندي بهم شغل
وكانوا لا يملون فما بالهم ملوا ... وراموا سلوة المغرم والمغرم لا يسلو
ترجى يرجع من طيب زماني ذلك الفضل ... أخلائي ببغداد وهل لي غيركم خل
هبوان الفيه منكم فبالأرواح ما تعلوا ... أعيذوني من الهجر فبهجركم قتل
لفقد الملك العادل ... يبكي الملك والعدل
وقد أظلمت الآفاق ... لا شمس ولا ظل
فأين الكرم والعدل ... وأين النافل الجزل
قال: وكانوا لضعف وثوق بعضهم ببعض يتبعون ما أبرموه أمس في يومهم بنقض ولهم كل يوم قسم جديد على قسم حدوده ويمين يمين الحالف بها لا محالة بما شروطه فيها من المقال أكدوا وكم عقدوا ما حلوه وحلوا ما عقدوه.
قال: وكان الأمير كمشتكيين النايب قد سمع بمرض نور الدين فأخفاه واستأذن في الوصول إلى الشام فأذن له سيف الدين غازي وخرج وسار مرحلتين وسمع النعي فأعذ السير ونجا بماله وندم صاحب الموصل على الرضا بترحاله وكان عنده بوفاة عمه بشارة وظهرت على صفحاته منها أمارة فنودي في الموصل يوم ورود الخبر بالفسحة في الشرب جهاراً وزال العرف وعاد النكر وأنشد قول ابن هانئ:
فلا تسقني سراً ... فقد أمكن الجهر
وقيل انه اخذ المنادى على يده دفاً وعليه قدح وزمر وزعم انه خرج بها أمر فلا حرج على من يغنى ويشرب ويسكر ويطرب وعادت الضرائب والمكوس.
وأما كمشتكين فانه وصل إلى حلب واجتمع هناك بالأمير شمس الدين علي وأخيه مجد الدين ابي بكر وهو رضيع نور الدين وقد تربى معه ففوض إليه جميع مقاصده وحكمه في ملكه وكانت حصونه به محصنة ومعاقد معاقله بشره مبرمة وكان يسكن معه في قلعة حلب، وشيزر مع أخيه شمس الدين علي، وقلعة جعبر وتل باشر مع سابق الدين عثمان، وحارم مع بدر الدين حسن وعين تاب وعزاز نوابه فيها وهو يصونها ويحميها، وهم أعيان الدولة وأعضادها وأبدال أرضها وأوتادها فلما توفي نور الدين رحمه الله لم يشكوا في أنهم يكفلون بولده فأقام شمس الدين علي وهو أكبرهم وأنبههم وأجودهم وأوجوههم ودخل قلعة حلب وسكنها وعرف ما جرى بدمشق من الاجتماع واتفاق ذوي الأطماع فكاتبهم وأمرهم بالوصول إليه في خدمة الملك الصالح ونفذ ثم استقر الأمر المحوط واستحكمت الأسباب والشروط وحمل المال وحسنت الأحوال واستمر الأمر وسكن الدهر إلى أن قصد الفرنج تلك الديار وسيأتي شرح ذلك في موضعه أن شاء الله تعالى.