وَأُسَامَةُ مَعَهُ أَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ، وَالْآخَرُ يظلله بثوبه من الحر، وفيه جواز استظلال الحرم بالمحمل ونحوه.
فصل ثم رجع إلى منى، فخطب خُطْبَةً بَلِيغَةً أَعْلَمَهُمْ فِيهَا بِحُرْمَةِ يَوْمِ النَّحْرِ وتحريمه وفضله، وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمر بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِمَنْ قَادَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِأَخْذِ مَنَاسِكِهِمْ عَنْهُ، وَقَالَ: «لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا» وَعَلَّمَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَأَنْزَلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ مَنَازِلَهُمْ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يَرْجِعُوا بَعْدَهُ كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَأَمَرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ» وَأَنْزَلَ الْمُهَاجِرِينَ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ، وَالْأَنْصَارَ عَنْ يَسَارِهَا، وَالنَّاسُ حَوْلَهُمْ، وَفَتَحَ اللَّهُ لَهُ أَسْمَاعَ النَّاسِ حَتَّى سمعه أَهْلُ مِنًى فِي مَنَازِلِهِمْ، وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ تِلْكَ: «اعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» وَوَدَّعَ حينئذ الناس، فقالوا: حجة الوداع.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ بِمِنًى، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ وَكَانَ يَنْحَرُهَا قَائِمَةً مَعْقُولَةً يدها اليسرى، وكان عددها عَدَدَ سِنِي عُمْرِهِ، ثُمَّ أَمْسَكَ، وَأَمَرَ عليا أن ينحر ما بقي من المائة، ثم أمره أن يتصدق بجلالها وجلودها ولحومها فِي الْمَسَاكِينِ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُعْطِيَ الْجَزَّارَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا مِنْهَا، وَقَالَ: «نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا وَقَالَ: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» فَإِنْ قيل ففي " الصحيحين " عن أنس في حجته: «ونحر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قياما» قيل: يخرج على أحد وجوه ثلاثة:
أحدها: أنه لم ينحر بيده أكثر من سبع، وأنه أمر من نحر إِلَى تَمَامِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ زَالَ عَنْ ذلك المكان وأمر عليا، فَنَحَرَ مَا بَقِيَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أنس لم يشاهد إلا السبع، وشاهد جابر تمام النحر. الثالث: أنه نحر بيده منفردا سبعا، ثُمَّ أَخَذَ هُوَ وعلي الْحَرْبَةَ مَعًا فَنَحَرَا كَذَلِكَ تَمَامَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ كَمَا قَالَ غرفة بن الحارث الكندي أَنَّهُ شَاهَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ قَدْ أَخَذَ بِأَعْلَى الْحَرْبَةِ، وَأَمَرَ عليا فَأَخَذَ بِأَسْفَلِهَا، وَنَحَرَا بِهَا الْبُدْنَ. ثُمَّ انْفَرَدَ