أحمد.
فلما كان بسرف حاضت عائشة وقال لأصحابه بسرف: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَا» وَهَذِهِ رُتْبَةٌ أُخْرَى فَوْقَ رُتْبَةِ التَّخْيِيرِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ، فَلَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ، أَمَرَ أَمْرًا حَتْمًا مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، وَيَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَلَمْ يَنْسَخْ ذَلِكَ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، بَلْ «سَأَلَهُ سراقة بن مالك عَنْ هَذِهِ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ إِلَيْهَا: هَلْ هِيَ لِعَامِهِمْ ذَلِكَ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ بل للأبد» قال: ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أن نزل بذي طوى وهي المعروفة بِآبَارِ الزَّاهِرِ، فَبَاتَ بِهَا لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَصَلَّى بِهَا الصُّبْحَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ مِنْ يَوْمِهِ، وَنَهَضَ إِلَى مَكَّةَ، فَدَخَلَهَا نَهَارًا مِنْ أَعْلَاهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي تُشْرِفُ عَلَى الْحَجُونِ، وَكَانَ فِي الْعُمْرَةِ يدخلها مِنْ أَسْفَلِهَا، ثُمَّ سَارَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وذلك ضحى.
وذكر الطبري أنه دخل من باب بني عبد مناف الذي يسمى باب بني شيبة، وذكر أَحْمَدُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ مَكَانًا مِنْ دار يعلى استقبل البيت، ودعا، وذكر الطبري أَنَّهُ كَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ قَالَ: «اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً»
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيُكَبِّرُ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، حَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ، اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَهُ تَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وبرا» وهو مرسل.
فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، عَمَدَ إِلَى الْبَيْتِ، وَلَمْ يَرْكَعْ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الطواف، فلما حاذى الحجر، اسْتَلَمَهُ، وَلَمْ يُزَاحِمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عَنْهُ إِلَى جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ: نَوَيْتُ بِطَوَافِي هَذَا الْأُسْبُوعَ كَذَا وكذا. ولا افتتحه بالتكبير، ولا حاذى الحجر بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، ثُمَّ انْفَتَلَ عَنْهُ وَجَعَلَهُ عَلَى شقه الأيمن، بل استقبله واستلمه، ثم أخذ على يمينه، ولم يدع عند الباب، وَلَا تَحْتَ الْمِيزَابِ، وَلَا عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ وأركانها، ولا وقت للطواف ذكرا معينة، بَلْ حُفِظَ عَنْهُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]
ورمل فيطوافه هذه الثلاثة الأشواط، وقارب بين خطاه، واضطبع بردائه، فجعله على أحد كتفيه، وأبدى