لكمال صبره وثباته ورفقه، وفّى مقام الصبر حقه.
ولما جاء الوحي ببراءتها حدّ من صرّح بالإفك إلا ابن أُبيّ مع أنه رأس الإفك، فقيل: لأن الحدود كفارة، وهذا ليس كذلك، وقد وعد بالعذاب الأليم فيكفيه ذلك عن الحد، وَقِيلَ: الْحَدُّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ وَهُوَ لَمْ يُقِرَّ بِالْقَذْفِ وَلَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَذْكُرُهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَذْكُرُهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقِيلَ: حَدُّ الْقَذْفِ حَقُّ الآدمي لا يستوفى إلا بمطالبة، وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، وعائشة لَمْ تُطَالِبْ بِهِ ابن أبي.
وقيل: تركه لِمَصْلَحَةٍ هِي أَعْظَمُ مِنْ إقَامَتِهِ، كَمَا تَرَكَ قتله مع ظهور نفاقه، وَهِي تَأْلِيفُ قَوْمِهِ، وَعَدَمُ تَنْفِيرِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُطَاعًا فِيهِمْ رَئِيسًا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يؤمن إثارة الفتنة في حده.
ولعله تركه لهذه الوجوه كلها.
وَفِي مَرْجِعِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ قَالَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ ابن أُبيّ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] (?) فَبَلَّغَهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ ابن أبي يَعْتَذِرُ وَيَحْلِفُ: مَا قَالَ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ زيد فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُذُنِهِ، فَقَالَ: " أَبْشِرْ فَقَدْ صَدَقَكَ اللَّهُ "، ثمَّ قَالَ: " هَذَا الَّذِي وَفَّى الله بِأُذُنِهِ "، فَقَالَ لَهُ عمر: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مر عباد بن بشر أن يضرب عُنُقَهُ، فَقَالَ: " فَكَيْفَ إذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ".
فصل
في غزوة الخندق وهي سنة خمس في شوال، وسببها أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين يَوْمَ أُحد، وَعَلِمُوا بِمِيعَادِ أبي سفيان لِغَزْوِ المسلمين أنه خرج لذلك ثم رجع، فخرج أشرافُهم إلى قريش يُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى غَزْوِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - فَأَجَابَتْهُمْ قُرَيْشٌ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى غَطَفَانَ فَدَعَوْهُمْ واستجابوا لهم، ثم طافوا في قبائل العرب، ثم ذكر القصة إلى أن ذكر قصة العُرنيين، وقال: فيها مِنَ الْفِقْهِ جَوَازُ شُرْبِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ، وَطَهَارَةُ بول مأكول اللحم، والجمع