ابن سعد أنه أقام بمكة يسيرا، ثم رجع إلى الحبشة، وهذا هو الأظهر؛ لأنه لم يكن له بمكة من يحميه، فتضمن هذا زِيَادَةَ أَمْرٍ خَفِيَ عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ، وابن إسحاق لم يذكر من حدثه، وابن سعد أسنده إِلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، فزال الإشكال ولله الحمد. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْهِجْرَةِ أبا موسى الأشعري، وأنكر هذا عليه الواقدي وغيره، وقالوا: كيف يخفى هذا على من دونه فضلا عنه؟ قلت: ليس هذا مما يخفى علي من دونه فَضْلًا عَنْهُ، وَإِنَّمَا نَشَأَ الْوَهْمُ أَنَّ أبا موسى هاجر من اليمن إلى عند جعفر وأصحابه، ثم قدم معهم، فعد ابن إسحاق ذلك لأبي موسى هِجْرَةً، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ هَاجَرَ من مكة لينكر عليه.
فصل وانحاز المسلمون إلى النجاشي آمنين، فبعثت قريش فِي أَثَرِهِمْ عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بهدايا للنجاشي ليردهم عليهم، وتشفعوا إليه بعظماء بطارقته، فأبى ذلك، فوشوا إليه أنهم يَقُولُونَ فِي عِيسَى قَوْلًا عَظِيمًا، يَقُولُونَ: إِنَّهُ عبد، فاستدعاهم وَمُقَدَّمُهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا أَرَادُوا الدُّخُولَ عَلَيْهِ، قَالَ جعفر: يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ حِزْبُ الله، فقال للآذن: قل لهذا يعيد استئذانه، فأعاده. فلما دخلوا، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى؟ فَتَلَا عَلَيْهِ جعفر صدرا من (كهيعص) ، فأخذ النجاشي عودا من الأرض، وقال: ما زاد عيسى على هذا، ولا مثل هذا العود، فتناخرت البطارقة حوله، قال: وإن نخرتم والله، قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي، مَنْ سَبَّكُمْ غرم - والسيوم بلسانهم: الآمنون - وقال لِلرَّسُولَيْنِ: لَوْ أَعْطَيْتُمُونِي دَبَرًا مِنْ ذَهَبٍ - يَقُولُ: جَبَلًا مِنْ ذَهَبٍ - مَا أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْكُمَا، ثُمَّ أمر فردت عليهما هداياهما، ورجعا مقبوحين. ثم أسلم حمزة وجماعة كثيرون، فلما رأت قريش أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْلُو وَالْأُمُورُ تَتَزَايَدُ، أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَتَعَاقَدُوا على بني هاشم وبني المطلب ألا يُبَايِعُوهُمْ، وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا يُكَلِّمُوهُمْ، وَلَا يُجَالِسُوهُمْ، حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ صَحِيفَةً، وَعَلَّقُوهَا فِي سقف الكعبة، وكتبها بغيض بن عامر بن هاشم، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشُلَّتْ يده،