وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} قال الحسن البصري: أُمِرُوا أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى دِينِهِمُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ لَهُمْ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَلَا يَدْعُوهُ لِسَرَّاءَ وَلَا لِضَرَّاءَ وَلَا لِشِدَّةٍ وَلَا لِرِخَاءٍ، حَتَّى يَمُوتُوا مُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُصَابِرُوا الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ دِينَهُمْ، وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، وَأَمَّا الْمُرَابَطَةُ فَهِيَ الْمُدَاوَمَةُ فِي مَكَانِ الْعِبَادَةِ وَالثَّبَاتِ وَقِيلَ: انْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ قاله ابن عباس ويشهد له حديث: «ألا أخبركم بما يمحوا اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ!! إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرابط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» (رواه مسلم والنسائي) وعن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيَّ أَبُو هُرَيْرَةَ يَوْمًا فَقَالَ: أَتَدْرِي يَا ابْنَ أَخِي فِيمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُوا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} قُلْتُ: لَا، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابِطُونَ فِيهِ، وَلَكِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ يُعَمِّرُونَ المساجد ويصلون الصَّلَاةَ فِي مَوَاقِيتِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهَا فَعَلَيْهِمْ أُنْزِلَتْ: {اصْبِرُوا} أَيْ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، {وَصَابِرُواْ} أَنْفُسِكُمْ وَهَوَاكُمْ، {وَرَابِطُواْ} فِي مَسَاجِدِكُمْ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما عليكم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيُكَفِّرُ بِهِ الذُّنُوبَ؟» قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي أَمَاكِنِهَا وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرباط» (أخرجه ابن مردويه والحاكم) وقيل: المراد بالمرابطة ههنا (مُرَابَطَةُ الْغَزْوِ) فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ، وَحِفْظُ ثُغُورِ الْإِسْلَامِ، وَصِيَانَتُهَا عَنْ دُخُولِ الْأَعْدَاءِ إِلَى حَوْزَةِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِالتَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ وَذِكْرِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ فِيهِ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا».
(حَدِيثٌ آخَرُ): رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ».
(حَدِيثٌ آخر): قال صلى الله عليه وسلم «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا المرابط في سبيل الله يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن الفتان» (رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر).
(حديث آخر): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ مِنَ الْفَتَّانِ وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا من الفزع الأكبر» (رواه ابن ماجة في سننه)
(طريق آُخرى) قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَأَمِنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وغدا عليه ريح بِرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَكُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُرَابِطِ إلى يوم القيامة».
(طريق أُخرى: قال الترمذي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ