بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
- 200 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُوا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ حَقَّ الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون بِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَنَّهُمْ خَاشِعُونَ لِلَّهِ أَيْ مُطِيعُونَ لَهُ خَاضِعُونَ مُتَذَلِّلُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أَيْ لا يكتمون ما بأيديهم مِنَ الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفته أمته، وهؤلاء ثم خِيرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَصَفْوَتُهُمْ سَوَاءً كَانُوا هُودًا أو نصارى، وقد قال تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يؤمنون} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ} الآية. وقد قال تَعَالَى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يسجدون} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لمفعولا} وهذه الصفات توجد في اليهود ولكن قليلاًن كَمَا وُجِدَ فِي (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ آمَنُ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَلَمْ يَبْلُغُوا عَشَرَةَ أَنْفُسٍ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يهتدون وَيَنْقَادُونَ لِلْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نصارى}، إلى قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} الآية. وهكذا قال ههنا: {أولئك لهم أجرهم عند رَبِّهِمْ} الْآيَةَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ {كهيعص} بِحَضْرَةِ النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ وعند الْبَطَارِكَةُ وَالْقَسَاوِسَةُ بَكَى وَبَكَوْا مَعَهُ حَتَّى أَخْضَبُوا لِحَاهُمْ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّجَاشِيَّ لَمَّا مَاتَ نَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: {إِنَّ أَخًا لَكُمْ بِالْحَبَشَةِ قد مات فصلّوا عليه" فخرج إِلَى الصَّحْرَاءِ فَصَفَّهُمْ وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ أبي حاتم، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّجَاشِيُّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «استغفرا لِأَخِيكُمْ»، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَسْتَغْفِرَ لِعِلْجٍ مَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَنَزَلَتْ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ} الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يَعْنِي مُسْلِمَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ عن قول الله: {وَإِنَّ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الْآيَةَ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعُوهُ وَعَرَفُوا الْإِسْلَامَ فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَ اثْنَيْنِ، لِلَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، واتباعهم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين» فذكر منهم رجلاً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي، وقوله تعالى: {لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} أَيْ لا يكتمون ما بأيديدهم من العلم كما فعلته الطَّائِفَةُ الْمَرْذُولَةُ مِنْهُمْ بَلْ يَبْذُلُونَ ذَلِكَ مَجَّانًا، ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: سَرِيعُ الْحِسَابِ يَعْنِي سريع الإحصاء.