الراجح من هذه الأقوال الأربعة هو القول الأول، وهو التحريم، ومن قال بالكراهة فما أبعد، فالمسألة مترددة بين الكراهة والتحريم، والذي أدين الله به هو أنه يحرم على المرأة أن تزور القبور، ويحرم عليها أن تتبع الجنائز؛ لأن زيارة القبر تابعة لاتباع الجنائز، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الوسيلة، فإذا نهى عن الوسيلة فمن باب أولى أن ينهى عن المقصد، قالت أم عطية: (نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا)، فقولها: ولم يعزم علينا، الإجابة عنه أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى عزم، فنهي النبي صلى الله عليه وسلم الأصل فيه التحريم ولا يحتاج إلى عزم، فيكون قولها: ولم يعزم علينا، هو من فهمها واجتهادها، أما نهي النبي فلا يحتاج إلى عزم، فإذا قال: انتهوا فلابد من الانتهاء، أما رأيتم أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية) لم يقولوا فيه: عزم أو ما عزم؟ بل استجابوا لنهيه فأكفئوا القدور وهي تغلي باللحوم.
ولما حرم الله الخمر وأنزل فيها آية: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] قال أنس: فرأيت الكئوس تدور على الرءوس فرموا بها وقالوا: انتهينا ربنا انتهينا ربنا، إذاً: فالنهي لا يحتاج إلى عزم، بل الأصل فيه التحريم.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور) فصححه الشيخ أحمد شاكر، لكن صراحة فيه مولى أم هانئ وهو ضعيف، لكن نحن نسوقه استئناساً لا احتجاجاً.
فهذه أدلة صريحة جداً وواضحة في التحريم.
أما من قال بالكراهة فإنه استدل بقول أم عطية: لم يعزم علينا، فنرد عليه بردين: الرد الأول: هذا الحديث الذي استدللت به على أنه على الكراهة هو في الاتباع أو الوسيلة، ودليلنا في المقصد نفسه وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور)، فلا صارف له، واللعن طرد من رحمة الله، فالحديث الذي في النزاع لا صارف له.
الرد الثاني: نحن لا نقبل المقدمة التي قدمتموها بأن قولها: لم يعزم علينا صارف؛ لأن هذا فهم من فهمها صادم النص الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم، فنهي النبي لا يحتاج إلى عزم، فإذا قال: لا تفعل كذا فلا تفعل جزماً، قال الشافعي: آمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذين قالوا بالجواز احتجوا بحديثين: الحديث الأول: حديث المرأة التي كانت تبكي عند قبر ابنها، وهذا الحديث من القوة بمكان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال لها: حرام عليك زيارة القبور، بل قال لها: اتق الله واصبري، والرد عليه من وجوه: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمامه منكران: المنكر الأول: زيارة المرأة للقبر، والثاني: عويل المرأة، ودمع وشق الجيب ولطم الخد، واحتمال وجود التسخط على أقدار الله جل في علاه، والقاعدة: تقديم الأهم على المهم، فهذه المرأة في محل قد تتسخط فيه على القدر، وقد تتكلم بكلام يمكن أن يخرجها من الملة، فهل تحافظ على دينها أم تحافظ على معصية وقعت فيها؟ يعني: هل تنهاها عن أمر قد تخرج به من الملة أم تنهاها عن معصية أخف منها؟ الخروج من الملة هو الأقوى، وتقديم الأهم على المهم واجب؛ ولذلك قدم النبي صلى الله عليه وسلم الأهم فقال لها: (اتق الله واصبري) حتى ترضى بقضاء الله جل في علاه، فيلين قلبها ويمتلئ إيماناً، وبعد ذلك يقول لها: يحرم عليك زيارة القبور، وهذا واضح جداً وجلي.
الثاني: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم سكت عنها في زيارة القبور للنهي المتقدم حيث قال: (لعن الله زائرات القبور)، وقد علم أن الصحابة أو الصحابيات سيعلمونها، فارتكز وركن على النهي الذي تقدم عنه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاها عن زيارة القبر ولم يروه الراوي لكن هذا الاحتمال ضعيف.
فإن قيل: المرأة بعد أن سكتت وسكنت وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم لم ينهها عن ذلك؟ ولم لم يقل لها: ارتكبت حرمتين: الحرمة الأولى: التسخط، الثانية: الزيارة، وإنما قال لها: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، وهذا إيراد قوي، لكن يمكن الجواب عنه بأن النبي رأى من المرأة أن اللوعة موجودة والحزن العميق ما زال في قلبها، ويمكن أن لا تقبل من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فهي جاءت تعتذر لجناب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك بين لها أن تتخذ الصبر سلاحاً، وبعد أن تصبر وتهدأ وبعد مرور الوقت يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم أو يأمر من يعلمها لعن النبي صلى الله عليه وسلم لمن زارت القبور.
وهذا جواب واه، لكن
صلى الله عليه وسلم هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها، ورضي بما هي فيه من زيارة القبور، وهذه سنة تقريرية، ولعن الله زائرات القبور أو زوارات القبور، وهذه سنة قولية، وإذا ورد حديثان ظاهرهما التعارض، وما استطعنا الجمع بينهما، فنذهب إلى الترجيح، وترجيح الحديث القولي مقدم على التقريري.
الحديث الثاني الذي استدل به من قال بالجواز: حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم زار أهل البقيع، فقالت له: يا رسول الله! كيف أقول؟ والجواب عنه: أن قولها: كيف أقول؟ يحتمل أن المعنى: إذا زرت القبور كيف أقول؟ ويحتمل إذا مررت بالمقابر كيف أقول؟ وتوجد سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا مررت بقبور المشركين أن تبشرهم بالنار، فتقول: أبشروا بما يسوءكم، فيحتمل أن عائشة لما سألت عن الدعاء علم النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستمر وتدعو، لاسيما والبقيع قريب من المسجد، فإذا مرت بقرب البقيع لها أن تقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أتاكم ما توعدون) وتدعو.
وإذا ورد الاحتمال في الدليل يسقط الاستدلال به في النزاع، ولا يصح أن يكون هذا الحديث مرجحاً من المرجحات في النزاع.
أما الذين قالوا بالاستحباب فعندهم كثير من الأدلة: الدليل الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فقال: (فزوروها)، والرد عليهم: بأن هذه اللفظة عند جماهير المحققين من الأصوليين تخص الرجال، وهذا ترجيح ابن تيمية وترجيح النووي قبله، فهذه الصيغة لا تدخل تحتها النساء إلا على التغليب فقط بالقرائن.
الدليل الثاني: أثر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهو أنها كانت في سفر الحج فمرت على قبر أخيها فزارته، والرد على هذا من وجوه: الوجه الأول: جاء في بعض الروايات -وفيها ضعف- أنها قالت: لو شهدتك ما زرتك، أي: لو شهدت تغسيلك وتكفينك والصلاة عليك ما زرتك.
الوجه الثاني: نقول: هذا اجتهاد من عائشة، بدليل أنها ردت على ابن أبي مليكة فقالت: نهى ثم أباح فقال: (فزوروها)، وهذا الاجتهاد مصادم لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور)، فلا يقدم قول أحد على قول النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثالث: أثر فاطمة، والرد عليه من وجوه: الوجه الأول: الأثر ضعيف جداً لا يصح.
الوجه الثاني: هناك بعض الروايات الضعيفة أيضاً نذكرها استئناساً، منها: أنه قال لها: (لو بلغت كدى -وهو موضع مقابر أهل مكة- لن تدخلي الجنة حتى يدخلها جد أبيك)، وهذا حديث ضعيف لا يصح، لكن فيه تعنيف على زيارة القبر.