اختلف العلماء في حكم زيارة النساء للقبور على أقوال خمسة: أولها: يحرم على المرأة اتباع الجنائز والسير خلفها، ويحرم على من كانت تؤمن بالله واليوم الآخر أن تزور القبور، وهي آثمة إن فعلت ذلك، أو اتبعت الجنازة، ويجوز لها الصلاة على الميت كما فعلت عائشة وغيرها من النساء، والدليل على ذلك ما يلي: الدليل الأول: حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله زائرات القبور)، وهذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، وفي رواية: (لعن الله زوارات القبور)، قالوا: وهذا اللعن يدل على أن التي تزور القبور قد فعلت كبيرة؛ لأن من ضوابط الكبائر أن الفعل الملعون عليه كبيرة.
الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور) وما أتى بصيغة المبالغة، بل قال: (لعن الله زائرات القبور)، قالوا: واللعن هو الطرد من رحمة الله، وهو يدل على أن زيارة القبور للنساء كبيرة.
واستدلوا على حرمة اتباع المرأة للجنائز بالأثر وبالنظر، فأما الأثر فما ورد عن أم عطية رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز)، والنهي الأصل فيه التحريم.
وأما النظر: فاتباعها الجنازة وسيلة إلى مقصد محرم وهو الزيارة، والقاعدة عند العلماء: الوسائل لها أحكام المقاصد، فقالوا: يحرم عليها أيضاً اتباع الجنائز، وهذا قول المحققين من الشافعية والحنابلة، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية، وترجيح ابن القيم.
القول الثاني: القول بالكراهة، وهذا ما عليه جمهور الشافعية وجمهور الحنابلة، فقالوا: يجوز للمرأة أن تزور القبر وأن تتبع الجنازة مع الكراهة، ومن الذي يكره هذا الفعل؟ الله هو الذي يكرهه، فكيف يتجرأ عليه المرء؟! لكن لا يأثم عليه، فقالوا يجوز مع الكراهة، لأنه قد جاء ما يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، وهو حديث أم عطية رضي الله عنها وأرضاها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) قالوا: فقول أم عطية: (لم يعزم علينا) يعني: ليس فيه التشديد، والنهي: هو طلب الكف على وجه اللزوم، وهنا لم يلزمهن النبي صلى الله عليه وسلم، فهي قالت: (لم يعزم علينا)، والنهي يفيد التحريم إلا إذا جاء صارف يدل على الكراهة، وهذا قول الجماهير عند الشافعية والحنابلة.
القول الثالث: الإباحة، فإن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل، فهو لا يستحب ولا يكره ولا يحرم، واستدلوا بما في الصحيحين: (مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة عند قبر تبكي على ابنها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله واصبري.
فقالت: إليك عني إنك لم تصب بمصيبتي -ولم تعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم- فقيل لها: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعت إليه فقالت: والله ما كنت أعلم أنك رسول الله، فقال لها: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
فقالوا: وجه الدلالة من هذا الحديث إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها وعدم إنكاره عليها، فلم يقل: لم فعلت هذا المحرم؟ أو لم جلست عند المقابر؟ أما علمت أنني قد نهيت وحرمت زيارة المقابر على النساء؟ واستدلوا على الجواز أيضاً بحديث في الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى البقيع فرفع يديه يستغفر لأصحابه، ثم رجع فسألته: أين كنت؟ فأخبرها بأنه كان في البقيع يدعو لأهل القبور، فقالت له: يا رسول الله! كيف أقول؟ فقال لها: (قولي: السلام عليكم دار قوم مؤمنين أتاكم ما توعدون، وإنا بكم إن شاء الله للاحقون) إلى آخر الدعاء.
فقالوا: وجه الدلالة إقرار النبي على أنها تدخل المقابر وتدعو بهذا الدعاء.
وهذا القول بالجواز قال به بعض الشافعية وجمهور الأحناف.
القول الرابع: استحباب زيارة المرأة للمقابر، وهؤلاء استدلوا من الأثر والنظر: فأما من الأثر فحديث: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) وهذا الأمر يدل على الاستحباب؛ لأن الأمر يدل على الوجوب أو على الاستحباب، ومما يؤكد الاستحباب العلة والحكمة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وقوله: (فزوروها) يعم الرجال والنساء، فالنساء شقائق الرجال في الأحكام، قالوا: ويعضد هذا الفهم أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها عندما حجت زارت قبر أخيها، فقال لها عبد الله بن أبي مليكة -وهو من أكابر التابعين-: (كيف تزورين قبر أخيك وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك؟ فقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نهى عن أباح فردت عليه بأنه أمر بها فقال: (فزوروها)، فردت عليه بأنه أمر بها، وأن هذا الأمر عام، يعم الرجال والنساء.
واستدلوا أيضاً على الاستحباب بفعل فاطمة حيث كانت كل جمعة تذهب إلى قبر حمزة رضي الله عنه وأرضاه أسد الله وأسد رسوله.
ونحن قلنا: هذه مخالفة من المخالفات التي تقع فيها النساء، ولابد أن تتقي الله المرأة، فلا تخرج من بيتها، بل تقر كما أمرها ربها جل في علاه بقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33].