مما يجب أن يزيدنا تحفظاً حيال التدخل في هذه المشاجرات الأخوية إلى حد ما ما يستخدمه الأولاد لاستدراج الأب والأم إلى إبداء انحياز لطرف على الطرف الآخر، وكأن الوالدين يوضعان عند ذاك على المحك لينكشف ما يضمرانه من تفضيل، فإذا ناصرا واحداً على الآخر اعتبر الثاني نفسه مغبوناً، مما يؤجج غيرته ويدفعه إلى تكرار المشاجرة انتقاماً مما حظي به خصمه من مساندة.
أما الأول فهو منقاد من جهته إلى إعادة الكرة من جديد بمناصرة والديه، لذا فتكثر هذه المشاجرات بحضور الأهل ويغذيها تدخلهم.
ولهذا السبب أيضاً تلاحظ هذه الظاهرة التي قد تبدوا غريبة لأول وهلة، ألا وهي تحرش الأضعف بالأقوى، واستدراجه إلى العراك، وأن الغاية المنشودة ليست عند المتحرش الانتصار على خصمه، وإنما كسب مؤازرة الأهل بحجة أن هذا الصراع غير متكافئ.
من هنا يقع ما يجده الأهل من صعوبة في حسم هذه المشاجرات بعدل، أياً كانت رغبتهم في ذلك صادقة، ولهذا يقول المثل الشعبي: (إن قاضي الأولاد شنق نفسه)، لذا فالأفضل أن نحد قدر الإمكان من تدخلنا في المشاجرات الأخوية مكتفين بالحرص على أن لا يلحق أحد المتخاصمين أذى بالآخر، أو أن يتسلط عليه بشكل دائم، وكما أشرنا فإن لهذه المشاجرات حسناتها على كل حال؛ إذ من شأنها أن تدرب أولادنا على الصراع الذي لابد من أن يواجهوه في المجتمع، فيتعلم كل واحد منهم من خلالها أن يؤكد ذاته مع مراعاة وجود الآخر ومصلحة الآخر ووجهة نظر الآخر وواقع ميزان القوى، فيتخطى هكذا تحكم محورية الذات به، وينمو في النضج النفسي والقدرة على مواجهة الواقع والتكيف مع متطلبات الحياة الاجتماعية، أما إذا اضطررنا إلى التدخل لوضع حد للغلو في العنف فليكن تدخلنا بحزم مقرون بالصفاء والتفهم، فلا يشعر المذنب بأننا ننبذه أو نحرمه من حبنا وتقديرنا، ويحتار الآباء ويتضايقون عندما يتشاجر أبناؤهم، هل الأفضل أن يتدخلوا بينهم ليحلوا مشاكلهم أم يدعوهم وشأنهم يحلونها بأنفسهم؟ وينصح خبراء تربية الطفل الآباء بعدم التدخل في هذه المشاجرات، وإذا استدعى الأمر تدخلهم فإن عليهم عدم إصدار الأحكام على أبنائهم؛ لأن ذلك يشعل الشجار أكثر بينهم، فالأم التي تلوم ابنها لأنه تشاجر مع أخته قائلة: عليك أن تحبها لأنها أختك.
أو تقول له: أختك الصغيرة طيبة معك، لماذا أنت شرس دائماً معها فالأم جعلت من نفسها حكماً؛ لأنها لامت ابنها ووقفت إلى جانب ابنتها، وساهمت بذلك في إشعال المشاجرة بين الأخوين.
وإليك المثال الآتي الذي نبين من خلاله خطأ تدخل الوالدين في مشاجرات الأطفال والانحياز لأحدهما: ركض أحمد البالغ من العمر تسع سنوات إلى أمه شاكياً اعتداء أخيه عليه قائلاً: أمي! ضربني عبد الرحمن في بطني.
قالت الأم: لا أترككما دقيقتين وحدكما حتى تبدأا في الشجار! من الذي بدأ الشجار هذه المرة؟ أجاب أحمد: هو الذي جاء إلى غرفتي.
قالت الأم لعبد الرحمن: لماذا لا تترك أخاك وشأنه حتى لا تسبب لنفسك المتاعب؟ قال عبد الرحمن لأخيه: ما أكثر ما تأتي! أنا أكرهك.
رد أحمد غاضباً: أنت الذي بدأت.
وتدخلت الأم مرة أخرى قائلة: ابتعدا عن بعضكما إذا كنتما لا تستطيعان البقاء معاً دونما شجار.
قال عبد الرحمن: أنا لم أفعل أي شيء، أنت دائماً تلومينني أنا.
أجابت الأم: عبد الرحمن! أنا أعرفك جيداً، ألا تقوم بأي عمل مفيد تشغل به وقتك بدل أن تتشاجر مع أخيك، لا أريدكما أن تلمسا بعضاً بعد اليوم.
إذا عدنا إلى استعراض الموقف لوجدنا أن الأم أخطأت خطأين، أخطأت عندما سألت طفليها قائلة: من بدأ هذه المرة؟ لأنها عندما تسأل مثل هذا السؤال كأنها تتطلع إلى معرفة الغالب والمغلوب؟ أي: لا بد أن يكون أحدهما على خطأ والثاني على صواب، وعندما تحدد الأم موقفها من شجار أطفالها بهذه الطريقة فإنها تبدو وكأنها تدعو أبناءها أيضاً إلى الاستمرار في الشجار، ومن سيكون مغلوباً هذه المرة ومن سيغلب في المرة القادمة.
أخطأت الأم أيضاً عندما هاجمت ابنها عبد الرحمن قائلة: ألا تستطيع أن تقوم بأي عمل مفيد بدل أن تتشاجر مع أخيك.
لأنها أثارت غضبه أكثر بسبب لومها له وعدم لومها لأحمد، ثم أشعلت ثورته أيضاً على أخيه لأنه اشتكى إلى أمهما، وهذا الشعور لا يجعله راغباً في تطوير سلوكه، ولماذا يفعل ذلك إذا كانت أمه ستلومه دائماً ولن تلوم أخاه، لذا كان على هذه الأم أن لا تتدخل في مشاجرة ولديها ولا تحكم على سلوكهما.
ولكي تتضح لنا مدى إيجابية تصرفات الوالدين عندما يبتعدان عن إصدار الحكم على سلوك أبنائهم نذكر هذا المثال: وقفت الأم في المطبخ تعد فطيرة للعائلة، وأقبل ولداها: كمال البالغ من العمر خمس سنوات، وحسام الذي لا يتجاوز الثالثة من عمره، قال كمال: أنا الذي طلبت أولاً أن أضع الدقيق.
قال حسام: لا.
أنا الأول.
علقت الأم قائلة: حسناً سنقوم معا بعمل الفطيرة.
قال حسام: أنا أريد أن أكسر البيض.
رد كمال: لا.
أنا أريد أن أكسر البيض.
وكانت الأم ماهرة في تعليقها عندما قالت: إن كنتما غير قادرين على تقرير من سيكسر البيض سأقوم أنا بذلك.
احتج الطفلان على والدتهما، قالت الأم: إذاً دعونا ننظر إلى ما بقي لنا من الفطيرة لم نقم به، سنحتاج لشخص يقيس الماء ويصبه، اختار كمال قياس الماء، وأراد حسام أن يكسر البيض، وحل الطفلان المشكلة بينهما دون أن تتدخل الأم كحكم بينهما.
إن أغلب الشجار بين الأبناء سببه شد انتباه هؤلاء الأبناء لآبائهم ليدركوا من خلال تدخلهم أيهما أقرب إلى نفس والديه، فليحذر الآباء من السقوط في هذه المصيدة، وليجعلوا تدخلهم في حدود المعقول، وبدون إصدار أحكام مسبقة على أحد الطفلين حتى لا يشعر بالظلم, بالتالي لا يرغب في تطوير سلوكه.
حينما يعرف الأطفال أن عليهم أن يحلوا مشكلاتهم بأنفسهم فإنهم كثيراً ما سيتوقفون عن الذهاب لوالديهم بشكاواهم ضد إخوتهم، فكثيراً ما يكون الأطفال قادرين على إيجاد حلول عملية لمشكلاتهم إذا تركوا لأنفسهم.
مثال آخر: أم تحاول العزل دائماً، ومع ذلك يتشاجر الولد والبنت دائماً بحجة أنها أعطته أكثر منها.
الحل المحتمل: الطريقة الأولى: يمكن أن تتجاهل الأم مطالبتهما بالعدل وتؤدي الأمر بالطريقة التي تراها مناسبة.
الطريقة الثانية: أن تبذل جهدها في تحري العدل والمساواة، وتفهم الطفل أن الحياة ليست دائماً عادلة، وأن الأشياء لا تكون متساوية دوماً.
الطريقة الثالثة: أن تصر الأم على التدقيق الشديد في العدل، وبصورة فيها سخرية منهما وبيان لسخافتهما في التنطع في مسألة العدل، فإذا أتى بقطعة حلوى مثلاً فإنها تقيسها لهم بالمسطرة، أو تزنها بالميزان، مع المبالغة في ذلك، ومعظم الأطفال إذا رأوا ذلك يكتشفون فوراً موضع السخرية، ويتلقنون الدرس، ويعرفون أن العدل المطلق أمر صعب.
الطريقة الرابعة: أن تطلب الأم من أحد الطفلين أن يقسم الشيء المختلف عليه، ثم تطلب من الآخر أن يختار، وهذه أيضاً طريقة ناجحة، لكن من أفضل طرق التعامل مع هذه المشاكل -كما نفهم مما تقدم من الكلام- أن نقوم بنقل المسئولية إلى الأطفال، أو نجعل الكرة في ملعبهم كما يقولون، فالمربي إما أن يتبع أسلوب المسئولية الفردية أو يتبع طريقة تحميل الطفل نفي المسئولية، فإذا سلكنا أسلوب المسئولية الفردية حينما يقوم المربي بإسناد حل المشكلة إلى الابن فيسلك أحد الاتجاهين: الاتجاه الأول: يخشى المربي أن تؤثر هذه المشاكل على حياة ابنه، فيتدخل في حمايته فيحرمه التدريب على الأساليب الملائمة لحلها ومواجهتها.
هذا الاتجاه -أن الأب هو الذي يحل المشكلة- تكمن سلبياته في أنه يجعل الابن يعتمد على والديه دون أن يتحمل المسئولية بنفسه في سبيل إيجاد حلول مناسبة، كما أنه يحرم من تحمل المسئولية والصعوبات التي تواجهه؛ لأنه تعود أن تصله الحلول جاهزة دون معاناة، ويحرم من النجاح والخبرة في التجارب الواقعية.
الاتجاه الثاني: أن يحرص الوالدان على تحميله المسئولية ويراقبانه من بعيد.
مثال: حينما يقصر هذا الابن في التعامل مع إخوانه في المنزل، ويتعدى عليهم بالشتم أو الخشونة والضرب نستعمل مهارات التواصل، أولاً: بالتعبير عن المشاعر، ثم بنقل المسئولية، ثم بزرع الثقة.
فنعبر عن المشاعر بأن تقول له: لقد قلت مراراً: إن علاقتك بإخوانك سلبية، ودائماً نحثك على معاملتهم جيداً لكنك تضربهم.
فأنت هنا عبرت عن مشاعرك، ثم تنقل إليه المسئولية فتقول: سأعتبر أن هذا من مسئولياتك.
وأنظر في هذه اللحظة.
ثم تقوم بزرع الثقة وتقول له: عندي قناعة أن لديك قدرة على التعامل مع إخوتك باحترام، ومعرفة السلوك الصحيح في هذا الأمر.