أحياناً يحدث التدليل الزائد للطفل، فالأم تريد أن تبين له أنها حنونة وعطوفة، وهي كذلك حقيقة، لكن ليس عندها فقه التربية، فكل ما يطلبه ينفذ له مهما كان، وبغض النظر عن أي اعتبار! فالطفل الذي يدلل هذا التدليل الزائد يظهر عنده أيضاً العناد والغضب ونحو هذه الأشياء، لماذا؟ لأنه تعود على أن طلباته تلبى ولا ترفض أبداً، ولم يوجد عنده شعور بضرورة ضبط النزعات، وتعود أن كل ما يشتهيه يناله بسبب التدليل الزائد عن الحد، وبالتالي إذا حصل له حرمان -حتى لما يكبر- من شيء معين، فإنه تظهر منه أفعال بدائية طفلية؛ لأنه إذا ظل طوال ثمان سنوات يغرس فيه التدليل الزائد، وكل ما يشتهيه يشتريه ويناله، ولا يعرف الرفض على الإطلاق، فكيف يتعود على مقاومة رغباته حينما يكبر؟! ومن الأمور المهمة في حل هذه المشكلة: المناخ الأسري داخل البيت؛ لأنه توجد أشياء كثيراً ما تؤثر على الطفل وتصنعه، والتربية العملية لا تتوقف، فهي تحدث ليلاً ونهاراً، وكل سلوك من الأب أو الأم وتعامل من قبل الأب أو الأم مع الأولاد في طريقة الأكل والنوم وغير ذلك من التصرفات فهي تربية، ولذلك لابد أن يقدم الأبوان قدوة حسنة للأطفال؛ لأن هذه هي التربية الحقيقية الفعالة المعايشة؛ فيتشربان القيم والمعايير والسلوكيات من الأبوين.
وأخطر شيء ينعكس على نفسية الأطفال: هو علاقة الأب والأم، وهذا أمر مهم جداً، إذ لابد من حصول توافق بين الأب والأم، لابد أن يوجد الاحترام المتبادل، فلا يرى أباه يضرب أمه أو يشتمها أو يهينها، وإذا ما وجد هذا النموذج فإنه ينعكس انعكاساً سيئاً جداً على سلوك الطفل، وعلى طريقته في التفكير، وعلى علاقته بزوجته بعد ذلك في الحياة، ولابد أن يصنع نفس ما رأى من والده، فبالتالي لابد من حصول الانضباط في سلوك الكبار.
نحن نشتكي من تصرفات الصغار، وأنتم -أيها الكبار- هلا قدرتم على ضبط سلوككم أمامهم على الأقل، وإن كان ولابد من المشاكل والشجار فيكون في غرفة مغلقة بصوت خفيف لا يسمعه الأطفال، أو في مكان خارج البيت، لكن إذا عاين الأطفال القلاقل والمشاكل والإهانة والاحتقار ونحو ذلك؛ فإن هذا بلا شك سوف ينعكس انعكاساً سلبياً على سلوكهم وتفكيرهم.
الطفل يشعر بالأمان بين أب وأم متوافقين، بينهما احترام ودفء عاطفي، ولا شك أن هذا يهيئ مناخاً يساعد على الصحة النفسية للطفل.
أحياناً يحدث نتيجة لعدم توحيد السياسة التربوية، من كون أحد الأبوين يحب هذا الابن أو يميل إليه أكثر من إخوته الآخرين مثلاً، فنجد طفلاً رغم أنه صغير لكنه ماكر، فيعمل عملية استفزاز، أو سوء استغلال لهذا الميل، فلو كان الأب هو الذي يدلله، ويحقق له كل رغباته، ويبالغ في إظهار المحبة له، فالطفل قد يستعمل سلاح أبيه ضد أمه أو إخوته.
مثلاً: إذا طلب من الأب شيئاً فرفض، فرمى بنفسه في الأرض، وصرخ وضرب رأسه بالحائط إلى آخره، فجاءت الأم لما رأته غضباناً وقالت: يا حبيبي! تعال، وتحقق له طلبه، فهذا السلوك والتناقض في الموقف الواحد يوصل رسالة للطفل مضمونها: إن هذه الطريقة هي الطريقة السليمة لتلبية رغباتي، فيغضب ويعاند ويرمي بنفسه في الأرض، فالأم تخضع بعاطفة الأمومة، رغم أن أباه قد رفض أن يعطيه ما يريد، فهو يستغل عدم توحيد السياسة التربوية.
قلت لكم: الطفل مكار ولئيم، وقد يستعمل سلاح الغضب والعناد والتحدي والصراخ والبكاء مع من أثبتت تجاربه السابقة نجاحها معه، وبعضهم فهم أنه لا أمل، ورأى أن أباه حازم وصارم ولا فائدة منه، إلا أنه يستعملها مع أمه؛ لأنه يعلم النتيجة، فهذا يدل على أنه يفهم الطفل عن طريق التجارب، وينبغي للأبوين أن يوحدا السياسة التربوية، ويعلما الطفل أن البكاء والصراخ والعناد والتكسير ليست طريقة يمكنه من خلالها الحصول على رغباته، وأنه لابد أن يتعلم الطفل التحكم في رغباته، ويتعود أنها قد لا تحقق، ومن فترة لأخرى يوجد إحباط صغير محدود، فتقول له: أنا الآن لا أقدر أن أشتريها لك، لكن في أول الشهر سأشتريها لك، وهذا فيه تدريب له على ضبط نزعاته، حتى لو كان درساً مؤقتاً لكنه مفيد.
وأحياناً تحرمه نهائياً، وتأتي له بسبب معقول، وتدربه على أن يحد من مطالبه، ويقف من المطالبة إلا إذا حصلت القدرة على ذلك.
خلاصة الحديث: أن التضارب في الموقف التربوي الواحد بين الأب والأم خطأ؛ فالأب يبيح، والأم تحرم، الأب يقول: نعم، والأم تقول: لا، الأم قد تظن أنها سوف تكسب ابنها عندما تدلله تدليلاً زائداً، ولا تعلم أنها تخسره وتفسده، وتوجد قاعدة في سلوكياته: أنه يلجأ إلى الطرف الآخر من أجل حمايته واستجابته تحت تهديد سلاح الغضب والعناد، طبقاً للوقت الملائم ومع الشخص المناسب؛ لخبرته السابقة.
وليست هذه هي المشكلة، إنما المشكلة أنه عندما يخرج إلى المجتمع الخارجي سيعمم نفس سلوكياته، والمجتمع الواسع في المدرسة أو البيئة لن يرحمه بالطريقة التي كانت أمه تدلله بها، فيأتي ليحقق رغباته فيصدم بحقيقة المجتمع؛ فيحصل له إحباط، وينزوي في نفسه، وتحصل له مشاكل.
على أي الأحوال الحق دائماً وسط بين طرفين: الغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط.