عاصمة، ولست أذكر كم من مرة رأيتها وقد أرخى الليل سدوله، وغابت نجومه وهدئت حركة الناس فيه.
أبي العزيز! إننا في انتظارك إذا كنت قد عجبت مني في المرتين السابقتين فقد جاء دوري لأعجب منك ومن تصرفات كثير من الآباء أمثالك أعجب العجب انتباهكم إلى أن الأمر الذي كنتم إليه وأبعدكم عن أسركم وأبنائكم، ليس أفضل مما قمتم عنه في بيوتكم ومنازلكم، أتعجب من أمركم أيها الآباء؛ فطالما دعوتم الله سبحانه أن يهب لكم من أزواجكم وذرياتكم ما تقر به أعينكم، ويبهج نفوسكم، ويروي بالفرحة صدوركم، فلما استجيبت دعوتكم حبستموها بعد حين من الدهر في بيوتاتكم، وتركتم مهجة أفئدتكم لعواج الزمن تنخرها نخرا، ولوسائل الإعلام تهدمها هدما، ولآداب رخيصة في شوارعنا وحاراتنا تعصف بها، عصفا ولوسواس الجنة والناس والأنفس تكيد لها كيدا.
حتى إذا انقضت السنون والأعوام وألقت بكم الأيام للأيام، جنيتم ثمار غفلتكم وغيابكم مرة كالعلقم، وعضتم أناملكم من الأسف والندم، وتمنيتم لو أنكم استقبلتم من أيامكم ولياليكم ما استدبرتم، ولشكرتم ربكم على ما أنعم به عليكم، ولرعيتم حق الرعاية نعمته التي أسبغها عليكم.
لكن هيهات هيهات هل يعيد الندم والأسف ما عفى عنه الدهر والزمن، ومرت عليه الآفات والمحن، لقد آن الأوان يا أبي كي أعلن الحقيقة أمامك وأصارحك بها، إنني أحتاجك اليوم قبل الغد، إنني أحتاجك قبل فوات الأوان، أحتاج عطفك وبرك، أحتاج حنانتك وأبوتك، أحتاج مساعدتك ومشورتك، أحتاج آرائك ونصائحك، أحتاج ضحكتك وابتسامتك، أحتاج جدك ولعبك، أحتاج أكلة خاصة من صنع يديك، أحتاج أن أتقاسم معك فراشك ومكان نومك، أحتاج أن أسابقك وألاعبك، أحتاج قصصك وحكايتك، أحتاج أمنك وحمايتك، أحتاج مثلك وسيرتك وقدوتك، أحتاج أن أتقاسم معك أفراحك وأحزانك، أحتاج طيفك وخيالك.