الناس يختلفون في التأثير بالتشجيع والتثبيط والتخذيل، فأحياناً يتعرض الإنسان لتخذيل أو تثبيط ربما يتفاعل معه بطريقة سلبية أو يتفاعل معه بطريقة إيجابية، قد يكون الشخص ضعيف الشخصية جداً بحيث إنه ينهار تماماً، وربما غير مسار حياته كله؛ بسبب عبارة تخذيل، أو مدرس حط من قدره أو احتقره، وهذه طريقة سلبية في التفاعل مع التخذيل، وهناك طريقة إيجابية يكون فيها ارتقاء الإنسان بسبب التخذيل، ويتفاعل معه بالعكس بتحدي.
أذكر أن مدرسة كانت تنتقد إحدى الطالبات في الثانوية، وكلما تقابلها تقول لها العبارة المعروفة: قابليني لو أفلحت بنفس هذه الأساليب الشيطانية المدمرة، حتى أنها كانت متربصة بها وهي داخلة الامتحان، وتتوعدها وتقول لها: تعالي قابليني لو نجحت حتى من الثانوية العامة، فكيف تفاعلت تلك الطالبة مع هذا التخذيل والتحطيم من المدرسة الجاهلة التي تحتاج إلى تربية؟ أخذت الموضوع بتحدي، فاجتهدت جداً في الدراسة، ودخلت نفس الكلية ونفس التخصص والمادة التي كانت المدرسة تتحداها فيها، وتفوقت إلى أعلى ما يمكن من المراتب في هذا العلم، وكان السبب التفاعل الإيجابي مع التثبيط، بتحدي وليس بخضوع واستسلام وتخاذل، فالإنسان يحاول دائماً أنه يحول الظروف إلى صالحه، هذا هو الإنسان العاقل؛ لأن الظروف لا تستطيع أنت تغييرها، فحاول أن تحولها إلى صالحك.
كان بعض الأكابر له مملوك سيئ الخلق فض غليظ لا يناسبه طبعه، فقيل له: لم لا تتخلص منه فإنه مؤذ وسيئ الطبع، وفيه نفور شديد؟ لماذا أنت متمسك به، ويمكن أن تبيعه وتتخلص من هذا العبد الغليظ؟ فقال: إني أدرس عليه مكارم الأخلاق؛ فأنا أروض أخلاقي وأتدرب على الصبر والتحمل، وكيف أحسن خلقي حتى مع من يؤذونني أو أبغضهم أو يبغضونني؛ فانظر كيف حول الظروف إلى صالحه! وهذا شيء حقيقي فعلاً؛ فإن الإنسان لولا المخالطة لن يتعلم ولن يستفيد، والإنسان المعزول تماماً عن الناس لا يكون عنده كفاءة في التعامل مع المسئوليات أو إدارة الأمور أو التكيف مع المحيطين به، فالاختلاط بالناس فيه فوائد مع ما فيهم من الأذى؛ فلا بد أن يعود الاختلاط بهم على الإنسان بفائدة؛ لأنه يرى الأخلاق السيئة في صورتها السيئة، فحينما يتمرن على مصاحبة مثل هذا المملوك السيئ الخلق، ومعاشرته والصبر عليه والتحمل، لا شك أن هذا سوف يقوي من إمكاناته الشخصية.
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: ولكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، يقول: احتكاكي بالجهال استفدت منه، وتعرفون أنه عانى من هؤلاء الناس معاناة شديدة حتى أحرقوا كتبه، وآذوه أذى شديداً، يقول: احتكاكي بالجهال والباغين نفعني منفعة عظيمة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فطري، وتهيج نشاطي؛ فكان ذلك سبباً إلى تواليف لي عظيمة، ولولا استثارتهم نشاطي واقتداحهم كامني ما انبعثت لتلك التواليف، يعني: الصراعات الفكرية، وصراعه مع المقلدين وغيرهم جعله يقرأ ويصنف مما أنتج هذه التصانيف الرائعة التي صنفها، ودائماً الحسود أو المؤذي إذا تفاعل معه الشخص المبغي عليه أو المجني عليه بالحسد أو الأذى تفاعلاً إيجابياً تحصل له الثمرة الإيجابية، فهناك بعض الأشعار في شأن الحسد لها نفس هذا المعنى، يقول بعضهم: يقابلني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا عود البخور كلما ازداد إحراقه كلما شاعت رائحته أكثر وأكثر، فكذلك الإنسان عليه أن يحول التخذيل أو التثبيط أو العوامل البيئية من حوله إلى عوامل إيجابية.
أذكر قصة للأديب المعروف عباس محمود العقاد، وكلما ذكرت اسم العقاد أتحسر في الحقيقة على العقاد، فقد كان من الأذكياء، ولكنه للأسف الشديد ضيع عمره في أنواع من المعارف والعلوم غير المثمرة إلا قليلاً مما خدم به المصنفات الإسلامية كالعبقريات ونحوها.
لكن على أي الأحوال هو أنموذج من نماذج التعامل مع التثبيط بطريقة إيجابية، فالذي يثبطك ادخل معه في التحدي، وتحداه وحول النتيجة التي يريدها منك إلى نتيجة إيجابية.
يقول العقاد: استفدت في مرحلة التعليم الابتدائي من أستاذين اثنين على اختلاف بينهما في طريق الإفادة؛ فإن الأستاذ الأول كان يقصد أن يفيدني لأنه كان يشجعني، والآخر أفادني على غير قصد منه، فحمدت العاقبة على الحالين، وكان أحد الأستاذين هو الشيخ فخر الدين محمد التشناوي، وكان يميل إلى التجديد والابتكار في التعبير، ويمنح أحسن الدرجات للتلميذ المتصرف في مناحي الكلام، وأقلها للتعبير الذي يؤخذ من نماذج الكتب، والذي يكتب موضوع إنشاء يعطيه أقل، والذي يبتكر من عنده تعبيرات وإنشاءات فهذا يعطيه درجة أعلى، وكانت دروسه تلتهب حماسة ووطنية، ولها تأثيرها البليغ في نفوس التلاميذ خصوصاً في زمن كانت تئن فيها البلاد من وطأة الاحتلال.
أما الأستاذ الثاني فمدرس الحساب، فقد كان يؤمن بالخرافات وشفاعات الأولياء، وكان محدود الفهم في دروسه، ولاسيما المسائل العقلية في دروس الحساب، وبعد أن ذكر بعض المواقف مع ذلك الأستاذ قال: ولكن الدرس الأكبر الذي أحسبه أكبر ما استفدته من جميع الدروس في صباي كان بسبب مسألة حسابية من تلك المسائل العقلية، كنت شديد الولع بهذه المسائل، لا أدع مسألة منها دون حل مهما يبلغ إعضالها، وكان الأستاذ يحفظ منها عدداً كبيراً محلولاً في دفتره، يعيده على التلاميذ في كل سنة، والمدرس كان يحفظ المسائل مثل اسمه، وقلما يزيد عليها شيئاً من عنده، وعرضت في بعض الحصص مسألة ليست موجودة في دفتر المدرس، فعانينا حلها في الحصة على غير جدوى، ووجب في هذه الحالة أن يحلها الأستاذ لتلاميذه فلم يفعل، وقال على سبيل التخلص: إنما عرضتها عليكم امتحاناً لكم؛ لتعرفوا الفرق بين مسائل الحساب ومسائل الجبر؛ لأنها تشتمل على مجهولين، لم أصدق صاحبنا، ولم أكف عن المحاولة في بيتي، فقضيت ليلة ليلاء حتى الفجر، وأنا أقوم وأقعد عند اللوحة السوداء حتى امتلأت من الجانبين بالأرقام، وجاء الفرج قبل مطلع النهار، فإذا بالمسألة محلولة، وإذا بالمراجعة تثبت لي صحة الحل، فأحفظ سلسلة النتائج وأعيدها لأستطيع بيانها في المدرسة دون ارتباك أو نسيان، فقلت: لقد حللت المسألة، قال الأستاذ: أية مسألة؟ قلت: المسألة التي عجزنا عن حلها في الحصة الماضية، قال: أو صحيح؟! تفضل أرنا همتك يا شاطر، وحاول أن يقاطعني مرة بعد مرة، ولكن سلسلة النتائج قد انطبعت في ذهني لشدة ما شغلتني، ومن طول ما راجعتها، وكررت مراجعتها وانتظرت ما يقول، فإذا الأستاذ ينظر إليّ شزراً وهو يقول: لقد أضعت وقتك على غير طائل؛ لأنها مسألة لن تعرض لكم في امتحان، وإذا بالتلاميذ على نفحة الأستاذ قائلين: ضيعت وقتنا، ما الفائدة من كل هذا العناء؟ ثم عقب العقاد على هذا الحدث بقوله: كانت هذه الصدمة خليقة بأن تكسرني كسراً لو أن اجتهادي كان محل شك عندي، أو عند الأستاذ أو عند الزملاء، أما وهو حقيقة لا شك فيها، فإن الصدمة لم تكسرني، بل نفعتني أكبر نفع حمدته في حياتي، وصح قول القائل: كل ما لم يقتلني يزيدني قوة؛ لأني لم أحفل بعدها بإنكار زميل ولا رئيس، وعلمت أن الفضل قيمته فيه لا فيما يقال عنه أياً كان القائلون.
فلا شك أن هذا درس وعبرة فيها فوائد جمة، فهو نموذج من نماذج التعامل مع التثبيط بطريقة إيجابية؛ لأنه واثق من موقفه، ولا يشك في أنه اجتهد وأنجز إنجازاً له قيمة، وأن زملاءه كانوا منافقين يداهنون المدرس، وأن المدرس لم يكن منصفاً في رده وما قصده، لكن مع ذلك انظر كيف تفاعل مع هذه المسألة؟! يحضرني أيضاً قصة العلامة الألباني رحمه الله تعالى، وهي: أنه لما كان في مقتبل صباه نشط لتحقيق مسألة حكم بناء المساجد على القبور، وحكم الصلاة في المساجد المبنية على القبور، خاصة أضرحة الأولياء، فالعلامة الألباني رحمه الله تعالى جمع الأقوال من مكتبة أبيه في البيت، وأبوه كان حنفياً، فرجع إلى كثير من مراجع الأحناف وعمل بحثاً قيماً انتهى به إلى أن الصلاة في هذه الأماكن مكروهة كراهة تحريمية، ثم ذهب وكله نشاط وهمة وأمل في سماع كلمة ثناء من شيخه الشيخ البرهاني، فعرض عليه البحث، وكان ذلك في الأيام الأخيرة من رمضان في تلك السنة، فقال له: بعد العيد إن شاء الله نتقابل وأكون قد قرأت البحث فلما قابله بعد العيد سأله عن البحث، فقال: لقد أضعت وقتك في غير فائدة، فإنك ما رجعت للمراجع المعتبرة عند أهل العلم، فيقول الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: فاستنكرت هذا التعليق، وأيقنت أن هذا الشيخ لم يقرأ البحث أصلاً؛ لأنه سرد أسماء كثيرة من المراجع أكثر بكثير مما ذكره شيخه، قال: فدفعني هذا إلى المزيد من البحث، ومن التحري في المسألة إلى أن خرج الكتاب المشهور المبارك: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، فالشاهد: أن الموقف كان تفاعلاً مع المثبط بطريقة إيجابية، فالذي يثبطك تحداه؛ لأن المثبط واحد من اثنين: إما أنه جاهل في التربية، وإما أنه حاقد يريد أن يحطم نفسية هذا الطالب، ويسيء إليه، وللأسف الشديد، ففي الحالتين لا يمكن أن يكون مستحقاً بأن يتأثر من كلامه؛ لأنه لا يقبل موقف الحاسد أو الحاقد أو الذي يريد به سوء، وأيضاً الجاهل لا يؤخذ منه ولا يبنى على موقفه.