من أسوأ الأشياء أن يصاحب الطالب شخص دائماً يأخذه إلى أسفل إما من أصحاب السوء الكسالى، أو من المثبطين الذين يحاولون تحطيم طاقاته وتحقيره وتعجيزه، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: قد قبض الرسول عليه الصلاة والسلام، فهيا نذهب إلى مجالس علماء الصحابة وفقهائهم كي نستفيد ونتعلم؛ لأن هذا هو المتاح الآن بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له صاحبه هذا: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم، يعني: أنت غلام صبي صغير تذهب تتعلم لكي تحمل العلم للناس، هل الناس يحتاجون إلى مثلك، وأنت صبي صغير، وأنت ترى في القوم عمر وأبا بكر ومعاذاً وغيرهم من الصحابة.
فقال له صاحبه: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم، قال: فتركت ذاك، أي: أهملت هذا الكلام ولم أرعه، ولم يبال بهذه الكلمة المثبطة، انظر كيف التعامل مع التثبيط، قال: فتركت ذاك وأقبلت على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه، وهو قائل -نائم في وقت القيلولة- فأتوسد ردائي على بابه يسف الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟! هلا أرسلت إليّ فآتيك، فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني! صاحبه الأول الذي كان يثبطه رآه قد صار إماماً، والناس ملتفون حوله يتعلمون منه، قال: فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني، يقول الشاعر: فحي هلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق تطوي المراحلا ولا تنتظر في السير رفقة قاعد ودعه فإن العزم يكفيك حاملا وهذا ابن شهاب رحمه الله تعالى كان يشجع الأولاد الصغار فيقول: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة سنكم؛ فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم.
وكان الخليفة هارون الرشيد رحمه الله يغدق العطايا والصلات لطلبة العلم والعلماء حتى قال ابن المبارك: فما رأيت عالماً، ولا قارئاً للقرآن، ولا سابقاً للخيرات، ولا حافظاً للمحرمات في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعلم، ويروي الحديث، ويجمع الدواوين، ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة، كل هذا بسبب تشجيع الخليفة هارون الرشيد للعلم ولطلبة العلم.
وبلغ حب بعض الأمراء للعلم والعلماء إلى الحد الذي جعله يعتبر العلماء في رعايته الخاصة، ومن هؤلاء الأمراء: المعز بن باديس، أحد أمراء دولة الصنهاجيين في المغرب الإسلامي، كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره إلى حضرته وجعله من خاصته، وبالغ في إكرامه، وعول على آرائه، ومنحه أسمى الرواتب.
كذلك فعل الخليفة الموحدي الثالث المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الذي أنشأ بيت الطلبة، وأشرف عليه بنفسه، وعندما بلغه حسد بعض حاشيته على موضع الطلبة النابغين منهم، أي: سمع أن بعض الناس في الحاشية يتداولون كلاماً بينهم مفاده: كيف يغدق هذا الإغداق والعطاء على طلبة العلم النابغين؟ ففزع منهم وخاطبهم قائلاً: يا معشر الموحدين! أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته -أي: من احتاج منكم رجع إلى قبيلته- وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمر فأنا ملجؤهم، إليّ فزعهم وإليّ ينسبون.
وبلغت عناية المنصور بالطبيب أبي بكر بن زهر حداً عجيباً، فقد كان أبو بكر يقيم عند الخليفة مدداً طويلة، ولا يرخص له بالسفر إلى أهله، حتى قال شعراً في شوقه إلى ولده الصغير، فلما سمع المنصور هذا الشعر أرسل المهندسين إلى إشبيلية وأمرهم بدراسة بيت أبي بكر وحارته، وتشييد مثله في مراكش، ففعلوا ما أمرهم به، وبنى له شارعاً، وفيه بيوت مشابهة للشارع الذي كان هو ساكن فيه، وبنى له بيتاً مثل بيته تماماً، فنقلوا عيال أبي بكر إليه، فلما رآه ابن زهر اندهش وحصل عنده من السرور ما لا مزيد عليه، ولا يستطاع التعبير عنه! فهل سمع بمثل هذا في إكرام العلم والعلماء؟! فالإسلام حليف العلم في كل العصور، ليس فقط علوم الشرع الشريف لكن حتى العلوم الحديثة، فإن العلم -بالذات في هذا العصر- أقوى مؤيد لدين الإسلام؛ لأن العلم منحاز بكل قوته إلى الإسلام، وقد تكلمنا مراراً على كتاب موريس بوكاي الذي فصل فيه الكلام على هذه الحقيقة.
في القرن السادس عشر قامت محاولة ناجحة في عهد الخلافة العثمانية لتجميع النابغين من جميع الأمصار والقرى، وتوفير الرعاية التي جعلت كل نابغة يعطي ما عنده من فن وعلم، مما ساعد على ازدهار الدولة العثمانية حضارياً وعسكرياً حتى صارت تهدد بغزو أوروبا.
يحكي الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى قصة يقول: قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الآداب؟ وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع، وقالت: إنها في تلك السن -بعد تلك الشهرة والمكانة- تدفعها كلمة التشجيع لتمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير، أي: مهما بلغ الإنسان من مكانة في علم أو عمل أو نحو ذلك، فإن كلمة التشجيع لها أثر طيب جداً، فليس التشجيع فقط مع الصغار، ولذلك كان من الذوق إذا أحسن إليك شخص لابد أن تعبر عن شكرك له، وقد وصل الأمر إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)، ومن لم يشكر الله فقد كفر بالنعمة.
فالإنسان يشكر لمن يعلم أنه أحسن إليه، نجد بعض الناس عنده هواية إذا قرأ كتاباً، وكان الكتاب حافلاً بالفوائد، وربما تكون فيه غلطة أو خطأ أو تقصير أو مسألة فيها نظر في أثناء الكتاب قام يشنع عليه، وهذه مدرسة قد ابتلينا بها في هذا العصر، أصحابها كالذباب لا يقع إلا على تلك الأشياء، فهو يترك كل الأشياء النظيفة وكل الفوائد ويركز اهتمامه فقط على الأخطاء، وكأن هذا الشخص لا يساوي إلا هذا الخطأ.
هذا من الجحود، وهذا ليس من الإنصاف، كيف والله سبحانه وتعالى حتى مع أهل الكتاب يقول: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75] فحتى مع هؤلاء لابد من الإنصاف.
الشاهد: أن هذا الجحود صار الآن ظاهراً في مدارس معينة أو مدرسة محددة كل وظيفتها النظر فقط إلى القمامة، والبحث فقط في القمامة، لكن كل الحدائق الخضراء والبساتين والزهور والرياحين والأشياء الجميلة يتركونها، لا يعمدون إلا إلى القمامة، يتقصدون أخطاء الناس ويتصيدون الزلات، قال السلف قديماً: (إن المنافق يطلب الزلات، والمؤمن يطلب المعاذير)، لن أفصل في هذا حتى لا نخرج عن موضوعنا، لكن لعلها عبرة لهواة التفتيش في القمامة.
إذا وجدت هفوة في كتاب فينبغي أن تقول: لقد استفدت من كتابك في كذا وكذا، لكن هناك نظر في المسألة الفلانية حبذا لو راجعتها، ربما يكون فاتك تحقيقها، أو نحو هذا الكلام اللطيف، لكن، الغلظة والشدة منهج وأسلوب حياة طغى -للأسف الشديد- على كثير من هؤلاء الناس.