اعلم أنك إن التمست شرط القياس الصحيح والحد الصحيح والتنبيه على مثارات الغلط فيها وقفت للجمع بين الأمرين، فإنها رباط العلوم كلها. فإن العلوم إدراك الذوات المفردة كعلمك بمعنى الجسم والحركة والعالم والحادث والقديم وسائر المفردات وإدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى البعض بالنفي والإثبات. فإنك تعلم أولاً معنى لفظ العالم وهو أمر مفرد ومعنى لفظ الحادث ومعنى لفظ القديم وهما أيضاً أمران مفردان، ثم تنسب مفرداً إلى مفرد بالنفي كما تنسب القِدم إلى العالم بالنفي، فتقول ليس العالم قديماً وتنسب الحادث إليه بالإِثبات فتقول العالم حادث والضرب الأخير هو الذي يتطرق إليه التكذيب والتصديق، فأما الأول فلا يدخله تصديق وتكذيب، إذ يستحيل التصديق والتكذيب في المفردات بل إنما يتطرق ذلك إلى الخبر ولا ينتظم خبر إلا بمفردين موصوف ووصف، فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بنفي أو إثبات فلا بأس أن يُصطلح على التعبير عن هذين الضربين بعبارتين مختلفتين. فإن حق الأمور المختلفة أن تختلف ألفاظها إذ الألفاظ مثل المعاني فحقها أن يحاذي بها المعنى فلنسمِ الأول معرفة ولنسمِ الثاني علماَ، متأسين فيه بقول النحاة: إن المعرفة تتعدّى إلى مفعول واحد إذ تقول عرفت زيداً، والظن يتعدّى إلى مفعولين إذ تقول ظننت زيداً عالماً. والعلم أيضاً يتعدى إلى مفعولين فتقول علمت زيداً عدلاَ، فهو من باب الظن لا من باب المعرفة. هذا هو الوضع اللغوي وإن كانت عبارة أهل النظر بهما تخالفه في استعمال أحدهما بدلاً عن الآخر. فإذا استقر هذا الاصطلاح فنقول الإدراكات المعلومة تنحصر في المعرفة والعلم. وكل علم يتطرق إليه التصديق فمن ضرورته أن تتقدم عليه معرفتان، فإن من لا يعلم المفرد كيف يعلم المركب، ومن لا يفهم معنى العالم ومعنى الحادث كيف يعلم أن العالم حادث. والمعرفة قسمان: أولى وهو الذي لا يطلب بالبحث كالمفردات المدركة بالحس، ومطلوب وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل فيطلب تفصيله. وكذلك العلم ينقسم إلى أولي وإلى مطلوب. فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس؛ وكأن طالب القياس والحد طالب الآلة التي بها تقتنص العلوم والمعارف كلها. فليكن كتابنا قسمين قسم هو محل القياس وقسم هو محل الحد.