وقال في السجن:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... ولسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا طلع السجّان وقتا لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وسمع السجّان محبوسا يقول: اللهم إحفظني. فقال: قل اللهمّ ضيّعني فإن حفظه لك أن يبقيك فيه.
خرج الحجاج يوما إلى الجامع فسمع ضجة عظيمة فقال: ما هذا؟ قالوا: أهل السجن يضجّون من الحر فقال: قولوا لهم إخسئوا فيها ولا تكلّموا. وأحصي من قتلهم الحجاج سوى من قتل في بعوثه وعساكره فوجد مائة وعشرين ألفا وجد في حبسه مائة ألف وأربعة عشر ألف رجل وعشرون ألف امرأة، منهنّ عشرة آلاف امرأة مخدرة.
وكان حبس الرجال والنساء في مكان واحد ولم يكن في حبسه سقف ولا ظلّ وربما كان الرجل يستتر بيده من الشمس فيرميه الحرس بالحجر وكان أكثرهم مقرنين في السلاسل. وكانوا يسقون الزعاف ويطعمون الشعير المخلوط بالرماد.
ولبّى رجل في الحبس في زمن المأمون فرفع إليه خبره، فوقّع أظن هذا قصد خلاف نيته وأظهر ضد عزيمته وقد أخطأت إسته الحفرة، وإذا حرم الحج بسوء تدبيره فلن يقدم فتوى صادقة من فريضة محكمة وهو محضر، وعليه الهدى فليؤخذ بتعجيله ولا يرخص له في تأخيره.
قال يعقوب بن داود: حبسني المهدي في مكان لا أعرف فيه الليل من النهار في بئر واسعة وفيها بئر أخرى أتغوط فيها وأعطى في كل يوم ماء وخبزا حتى عفا شعري وصار أطول من شعر البهائم حتى مضت إحدى عشرة سنة فأتاني آت في منامي فقال جنى على يوسف رب فأخرجه من قعر جبّ فحمدت الله فأتى على ذلك سنة ثم أتاني ذلك الآتي، فقال:
عسى فرج يأتي به الله إنّه ... له كلّ يوم في خليقته أمر
ثم مكثت حولا آخر فأتاني ذلك الآتي فأنشدني:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفكّ عان ... ويأتي أهله النّائي الغريب
فلما أصبحت دلى لي مرس فشددت به وسطي فخرجت ما أبصر أحدا فقلت: السلام على أمير المؤمنين قيل ومن أمير المؤمنين؟ قلت: المهدي. قالوا: رحم الله المهدي.
قلت: الهادي قالوا: رحم الله الهادي. قلت: فمن؟ قالوا الرشيد قلت السلام على أمير المؤمنين الرشيد فقال وعليك السلام وأمر لي بخمسمائة ألف وردّ علي ضياعي. فعولجت حتى عاد ضوء عيني فاستأذنته في الحج فأذن لي فمضى إلى الحج ومكث حتى توفي.