معصية، فإن كانت على طاعة تقدمت، وإن كانت على معصية تأخرت. هذا حال خواص المحبين الصادقين.
فافهموا -رحمكم الله- هذا؛ فإنه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة. وإلى هذا المقام أشار صلى الله عليه وسلم - في خطبته لما قدم المدينة حيث قال: "أحِبُّوا الله من كل قلوبكم"وقد ذكرها ابن إسحاق وغيره. فإنه من امتلأ قلبه من محبة الله لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادة النفس والهوى، وإلى ذلك أشار القائل بقوله:
أَرَوحُ وقَدْ خَتَمْتُ عَلَى فُؤَادِي ... بحبِّك أَنْ يَحُلَّ بِهِ سِواكَا
فَلوْ أنِّي استَطَعْت غَضَضْت طَرفيِ ... فَلَمْ أَنْظُرْ بهِ حَتَّى أَرَاكَ
أُحبُّك لا بِبَعْضِي, بَلْ بِكُلِّي ... وَإِنْ لَمْ يُبقِ حُبُّكَ لِي حِرَاكَ
وفي الأحْبَابِ مَخْصُوصٌ بوَجدٍ ... وآخرٌ يَدَّعِي مَعَهُ اشْتِرَاكَ
إذا اشتَبَكَت دُموعٌ في خُدُودٍ ... تَبَينَ مَنْ بَكى مِمَنْ تَبَاكَى
ومتى بقي للمحب حظ من نفسه فما بيده من المحبة إلا الدعوى؛ إنما المحب من يفنى عن كل هوى ويبقى بحبيبه "فبي يسمع وبي يبصر" القلب بيت الرب، وفي بعض الإسرائيليات: ما وسعني سمائي ولا أرضي وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن.
فمتى كان القلب فيه غير الله فالله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة أصنام الهوى. الحق غيور يغار على عبده المؤمن أن يسكن في قلبه سواه، أو أن يكون فيه شيء لا يرضاه.
أَرَدْنَاكُم صَرفًا فلَّمَا مزَجْتُم ... بَعَدتُم بِمقْدَار التِفَاتِكم عَنَّ
وقُلْنَا لَكُم لا تُسْكِنُوا القَلْبَ غَيْرَنَا ... فأَسْكَنْتُم الأَغْيَار مَا أَنْتُم مِنَّا
لا ينجو غدا إلا من لقي الله بقلب سليم ليس فيه سواه، قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 1 السليم هو الطاهر من أدناس