روى أبو داود في سننه من حديث يوسف بن مالك قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم فغالطوه بألف درهم فأدّاها إليهم فأدركت لهم من أموالهم مثلها، فقلت: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك. قال: لا. حدّثنِي أبي أنّه سمع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول: "أدّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تخن مَن خانك".وهذا وإن كان في حكم المنقطع فإنّ له شاهداً من وجهٍ آخر. وفي المسند عن بشر بن الخصاصية أنّه قال: يا رسول الله إنّ لنا جيراناً لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلاّ أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه؟ قال: "لا. أدّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ولا تخن مَن خانك".
فهذه الأحاديث تبيّن أنّ المظلوم في نفس الأمر إذا كان ظلمه غير ظاهرٍ وقدر على مال لِمَن ظلمه وأخذه خيانة لم يكن له ذلك، وإن كان هو يقصد أخذ نظير حقّه لكنه خان الذي ائتمنه، فإنّه إذا سلم إليه ماله فأخذ بعضه بغير إذنه ولا باستحقاق ظاهر كان خائناً، وإذا قال: أنا أستحقّ في نفس الأمر لما أخذته لم يكن ما ادّعاه ظاهراً معلوماً، وصار كالمتزوّج امرأة وأنكرت نكاحه ولا بيّنة له، فإذا قهرها على الوطء من غير حجّة ظاهرة فإنّه ليس له ذلك، ولو قدر أنّ الحاكم حكم على رجلٍ بطلاق امرأته ببيّنة اعتقد صدقها وكانت كاذبة في الباطن لم يكن له أن يطأها لما يعلم في الباطن.
فإن قيل: ليس هذا بخيانة بل هو استيفاء حقٍّ. والنَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ نهى عن خيانة مَن خان، وهو أن يأخذ من مال ما لا يستحقّ نظيره.
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن هذا السّؤال بأن قال: هذا ضعيف لوجوه:
أحدها: أنّ الحديث فيه: أنّ قوماً لا يدعون لنا شاذة إلاّ أخذوها أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون منّا؟ فقال: "لا".