أَنَّهُ قَالَ: {إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا} . ثُمَّ إنَّهُ حَرَّمَ لُبْسَهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ. وَهَذَا وَجْهٌ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عكيم: {كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ} فَإِنَّ الرُّخْصَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْجُلُودِ بِلَا دِبَاغٍ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فَرَفَعَ النَّهْيَ عَمَّا أَرْخَصَ فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ قَطُّ وَلِهَذَا كَانَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد: أَنَّ الدِّبَاغَ مُطَهِّرٌ لِجُلُودِ الْمَيْتَةِ: لَكِنْ هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الذَّكَاةِ أَوْ مَقَامَ الْحَيَاةِ فَيُطَهِّرُ جِلْدَ الْمَأْكُولِ أَوْ جِلْدَ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ دُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ. فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ مَا تُطَهِّرُهُ الذَّكَاةُ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَمْرِ فِي إطْفَاءِ الْحَرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَلَّمَهُ الْمُنَازِعُونَ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِمُجَانَبَةِ الْخَمْرِ أَعْظَمُ فَإِذَا جَازَ إتْلَافُ الْخَمْرِ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَإِتْلَافُ النَّجَاسَاتِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُمْ سَلَّمُوا جَوَازَ طَعَامِ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ فَاسْتِعْمَالُهَا فِي النَّارِ أَوْلَى. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا مَظِنَّةُ مُلَابَسَتِهَا فَيُقَالُ: مُلَابَسَةُ النَّجَاسَةِ لِلْحَاجَةِ جَائِزٌ إذَا طَهَّرَ بَدَنَهُ وَثِيَابَهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا. كَمَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ مَعَ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُكْرَهُ ذَلِكَ.