المسألة الثانية: أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وهذا في الحقيقة أمر بدهي، على مقتضى قطعيات النصوص، من الآيات وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأعمال الإسلام، وأعمال المسلمين كلها تدل دلالة قطعية على أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان لا يمكن أن يتم ويكتمل إلا بالأعمال.
وعلى هذا فإن هذه الحقيقة لم تكن محل خلاف في عهد الصحابة والتابعين إلى وقت تابعي التابعين نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني حين ظهرت فرقة يقال لها: المرجئة، وزعموا أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وإن كانت الأعمال مطلوبة منهم شرعاً، فالأوائل منهم كانوا أهل ورع، ولا يستهينون بالأعمال، لكنهم لا يرون أنها تدخل في مسمى الإيمان.
وهذه المقالة ناتجة عن عقدة فلسفية، وراجعة إلى خطأ في الاستدلال، وخطأ في الفهم أيضاً، وتجاوز منهج السلف، وحينما زعمت المرجئة بأن الإيمان هو التصديق، وأن التصديق لا يدخل فيه العمل، بمعنى أنهم أعادوا المصطلح الشرعي إلى المعنى اللغوي فقط، وما من أحد يحصر المصطلح الشرعي في المعنى اللغوي في أي أمر من أمور الشرع إلا ويقع في خطأ فادح، لأن الشرع جاء بإطلاق الألفاظ الشرعية على معانٍ شرعية محددة، ومنها الإيمان، ولو أخذنا الإيمان بمجرد معناه الذي هو التصديق، لأدى هذا إلى كارثة في الدين لأننا حصرنا الدين في مجرد التصديق وأخرجنا المعاني الأخرى من الإيمان، فاستهان الناس بالأعمال.
وعلى هذا فالسلف اضطروا إلى أن يقرروا هذه القاعدة مع أنها بدهية، لأن هناك من شكك فيها.
وأما الأدلة على ذلك فأنا أحصر هذا في دليلين: الدليل الأول من القرآن: فإن الصحابة رضي الله عنهم لما صرفت القبلة إلى الكعبة بعد بيت المقدس، خاف الذين صلوا من المسلمين في التاريخ الأول وماتوا قبل أن يدركوا صرف القبلة ألا تقبل أعمالهم، ولا إيمانهم، ولا دينهم، فقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم، والصلاة عمل، وسماها الله عز وجل إيماناً.
أما الدليل الثاني: فهو دليلٌ قاطعٌ وواضحٌ جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم وصريح لا يستطيع أحد أن يرده وهو يدل على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون -وفي رواية: بضع وسبعون- شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله) وشهادة أن لا إله إلا الله هي قول وعمل يعني: عمل اللسان، وعمل القلب، ثم قال: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) وإماطة الأذى عن الطريق عمل، وسماها إيماناً، وعدها من شعب الإيمان.
فالأحاديث في هذا الباب متواترة، وهي تقرر صراحةً بأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان بل لا تكاد تحصر، وتصل إلى حد التواتر، والمتواتر لابد من قبوله.
إذاً: الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأنها جزء من الدين، فالإيمان هو التزام شرع الله، عقيدة وقولاً وعملاً.