فالمشرع قد أهدر المنفعة هنا حين حرم تناول الخمر ولعب الميسر ... ، ومثل ذلك يجري في كل المحرمات.
فلا بد لإباحة التصرف في الشيء أن يكون أصل الشيء حلالاً في ذاته، مباحاً في ذاته له، فإذا وجد فيه منفعة وإن قلت أبيح بيعه والتصرف فيه لمن ملكه، فمن ملك شيئاً ولو قل نفعه، أبيح له بيعه أو بيع جزء منه. فهل ملك الإنسان نفسه، أو ملك أحد إنساناً حراً حتى نقول بجواز أن يبيعه أو يبيع جزءاً منه، الإجابة على ذلك: لا؛ لأن الحر غير مملوك، وأنه يحرم المساس به كلا أو بعضاً إلا بحق ... ومن هان يفترقان.
وحسبنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة أنا خصمهم.. منهم رجل باع حراً وأكل ثمنه)) .
خامساً: أن قياس لبن الآدميات في جواز بيعه على لبن الغنم قياس مع الفارق وذلك لما يأتي:
1- أن الإنسان مالك للغنم والغنم مملوكة له، وشتان بين الأمرين.
2- أن لحم الإنسان محرم، ولحم الغنم حلال.
3- أن الإنسان مكرم غير مبتذل، والغنم مسخرة للإنسان ومبتذلة له. وشتان بين الأمرين.
4- أن لبن الآدميين تتعلق به أحكام دقيقة وخطيرة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) . ولا تتعلق بلبن الغنم أحكام، ومثل ذلك يجعل القياس مع الفارق ويوجب علينا عدم التوسع في أحكام هذا النوع من اللبن، بحيث يحلب ويباع ويشترى.
سادساً: أن قولهم بأن أجزاء الآدمي مضمونة ـ يعني عند التعدي عليه ـ سواء بالقصاص أو الدية أو حكومة العدل، فيجب أن يكون اللبن مضموناً بالإتلاف.
أجاب عنه الحنفية بمنع ضمان أجزاء الإنسان مطلقاً، بل المضمون ما انتقص من الأصل حتى لو نبتت السن التي قلعت لا ضمان، إلا ما يستوفى بالوطء فإنه مضمون وإن لم ينتقص شيئاً، تغليظاً لأمر البضع، فجعل ما يستوفى بالوطء في حكم النفس، بخلاف من جز صوف شاة، فإنه يضمن وإن نبت غيره، وبإتلاف اللبن لا ينتقص شيء من الأصل، ولأن حرمة المصاهرة تثبت بشربه، ففي إشاعته ببيعه فتح لباب فساد الأنكحة، فإنه لا يقدر على ضبط المشترين والبائعين فيشيع فساد الأنكحة بين المسلمين.
ثم قال الكمال بن الهمام: وإن كان هذا يندفع إذا كانت حرمة شربه شائعة بالدار (دار الإسلام) فيعلم أن شراءه ليس إلا لمنفعة أخرى ـ كشراء الأمة المجوسية بعد اشتهار حرمة وطئها شرعاً، لكنهم يجيزون شربه للكبير.
هذا ولقد روي عن محمد بن الحسن أنه قال: (جواز إجارة الظئر دليل على فساد بيع لبنها؛ لأنه لما جازت الإجارة ثبت أن سبيله سبيل المنافع، وليس سبيله سبيل الأموال؛ لأنه لو كان مالاً لم تجز الإجارة، ألا ترى أن رجلاً لو استأجر بقرة على أن يشرب لبنها لم تجز الإجارة، فلما جاز إجازة الظئر ثبت أن لبنها ليس مالاً.
لكل هذه الاعتبارات أرى عدم جواز بيع لبن الآدمية الحرة ولا الآدمي، كما لا يجوز بيعهما ولا بيع شيء من أجزائهما.