وهذا الحديث أصل في مشروعية الوقف، وهو يدل على منع التصرف في الوقف، لأن الحبس معناه المنع، أي منع العين عن أن تكون ملكاً، وعن أن تكون محلاً لتصرف تمليكي. لكن يلاحظ أن هذا الحديث لا يدل على خروج المال الموقوف عن ملك الواقف. وقد استمر الحبس وعمل الأمة به منذ صدر الإسلام إلى الآن على وقف الأموال على وجوه الخير ومنع التصرف فيها من الواقف وغيره.
وقد عرفه المالكية فقالوا: جعل المالك منفعة مملوكه ولو كان مملوكاً بأجرة أو جعل غلته كدراهم لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس، أي أن المالك يحبس العين عن أي تصرف تمليكي، ويتبرع بريعها لجهة خيرية تبرعاً لازماً مع بقاء العين على ملك الواقف مدة معينة من الزمن، فلا يشترط فيه التأبيد.
ومثال المملوك بأجرة أن يستأجر مثلاً داراً مملوكة أو أرضاً مدة معلومة، ثم يوقف منفعتها لمستحق آخر غيره في تلك المدة، وبه يكون المراد من المملوك إما ملك الذات أو ملك المنفعة، فالوقف عند المالكية لا يقطع حق الملكية في العين الموقوفة، وإنما يقطع حق التصرف فيها. وقد استدلوا على بقاء الملك في العين الموقوفة بحديث ابن عمر المتقدم لأنه قال صلى الله عليه وسلم: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) ، ففيه إشارة بالتصدق بالغلة مع بقاء ملكية الموقوف على ذمة الواقف ومنع أي تصرف تملكي فيه للغير بدليل فهم عمر على الاتباع ولا توهب ولا تورث. وهذا يشبه ملك المحجور عليه لسفهه، أي تبذره، فإن ملكه باق في ماله ولكنه ممنوع من بيعه وهبته، وهذا الرأي أحق دليلاً.
واتفق العلماء على أن وقف المساجد هي من باب الإسقاط والعتق لا ملك لأحد فيها، وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] . وتقاس كل مصلحة عامة كالمستشفيات والمدارس والكتاتيب ونحوها من كل ما يحقق مصلحة عامة ترجع بالفائدة على المجتمع.
وحكم الوقف: أنه سنة مندوب إليها، وهو من باب التبرعات المندوبة، وقد قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، وقال سبحانه: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] . وهذا يفيد بعمومه الإنفاق في وجوه الخير والبر، والوقف إنفاق المال في جهات البر.