وهذه الأوجه كلها ذات مردود استثماري فإنشاء دور العبادة ورعايتها يمثل استثماراً يسهم في تنمية المجتمع، وسلامته من الوجهة الروحية، والتعليم استثمار، لأن ناتجه كوادر بشرية سوف تسهم بعد تأهيلها في تنمية المجتمع وتدفع بحركة التقدم فيه، ومثل ذلك وقف المستشفيات؛ لأن المرض يمثل عائقاً من العوائق التي تحول بين المجتمع والتقدم، وأن الصحة لها دور مباشر في تقدم المجتمعات، لأن أفراد المجتمع حينما يكونون أصحاء أقوياء تكون لديهم المقدرة على العمل وإتقانه ومن ثم الإبداع فيه، فينتج عن ذلك التحضر والتقدم، وكل ذلك استثمار، هذا فضلاً عما في الوقف من استثمار معنوي أخروي يهفو إليه المسلم وتتطلع إليه نفسه {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] .
وفي هذا يقول الإمام علي كرم الله وجهه حينما تصدق بأرضه بينبع: أبتغي بها مرضاة الله ليدخلني الجنة، ويصرفني عن النار ويصرف النار عني (?) .
وفي ضوء التعريف المالي يعتبر الوقف استثماراً أيضاً لأنه: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهذه المنفعة لا تكون إلا عن طريق الاستثمار والجهد فيه، فأصول الوقف غالباً ما توظف في مشروعات، بهدف الحصول على عائد منها لتوزيعه على الموقوف عليهم الذين تظل حاجاتهم متجددة طبقة بعد طبقة.
وفي هذا المعنى يقول الدهلوي، وهو يتحدث عن حكمة الوقف: فاستنبطه النبي صلى الله عليه وسلم لحكمة لا توجد في سائر الصدقات، فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً، ثم يفنى فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، وتجيء أقوام أخرى من الفقراء فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبساً للفقراء، والمساكين، وابن السبيل، تصرف عليهم منافعه ويبقى أصله (?) .
وللفقهاء إشارات كثيرة تخدم هذا المعنى، ومن ذلك ما جاء في (نهاية المحتاج) : (شرط الموقوف أن يكون عيناً معينة مملوكة ملكاً يقبل النقل يحصل منها مع بقاء عينها فائدة أو منفعة تصلح إجارتها) (?) .
وجاء في (المغني) لابن قدامة مسألة: قال: (وما لا ينتفع به إلا بإتلاف، مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب فوقفه غير جائز) (?) .