كما كانت هي الأساس في إنشاء الجامعات الإسلامية الأولى كالأزهر في مصر، والقرويين في فاس، والزيتونة في تونس، والمدرسة المستنصرية والنظامية ومدرسة الإمام الأعظم في بغداد، والمدارس الدينية الكثيرة حول بيت المقدس في فلسطين، هذا بالإضافة إلى دورها في وقف الكتب، وظهور المكتبات العامة في البصرة وساوة ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، وسلا، وفاس، وتونس، وغير ذلك كثير يصعب حصره (?) .
ولم يقف دور الوقف على الجوانب العلمية والثقافية وحدها، بل شمل إلى ذلك الوقف على المارستانات –أي المستشفيات- كمارستان أحمد بن طولون والمنصوري في القاهرة، والمارستان العضدي في بغداد، ومارستان نور الدين زنكي في دمشق (?) .
والوقف على (الخانقاهات) والرباطات وهي مآوي الفقراء والغرباء وعابري السبيل كالرباط الطاهري ورباط المأمونية والزوزني وابن النيار ببغداد، ورباط ربيع والشرابي والسدرة والأبرقوهي والخوزي والموفق والصفا وقايتباي بمكة، ورباط قراء باشي، وعثمان بن عفان والجبرت، ومظهر الفاروقي بالمدينة المنورة وغير هذا كثير.
وخلاصة القول: إن تتبع تاريخ الوقف وتطوره عبر العصور الإسلامية المختلفة يدل على تطور هذه المؤسسة، بل يكشف أيضاً عن رقي المسلمين وتحضرهم، ومدى شفافيتهم، إذ شملت الأوقاف –فوق ما تقدم ذكره- الأوقاف على الحيوانات والطيور كوقف المرج الأخضر بدمشق الذي كان وقفاً على الحيوانات المريضة تظل ترعى فيه حتى تموت، ووقف نقطة الحليب الذي وقفه في قلعة دمشق الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي لإمداد الأمهات بالحليب والسكر لتغذية أطفالهن (?) ، ووقف الحدائق المثمرة ليأكل منها كل عابر سبيل، ووقف الأواني، الذي كان مخصصاً لضمان الأواني التي تنكسر بسقوطها من أيادي الخدم.
ذكر ابن بطوطة في رحلته أنه مر يوماً ببعض أزقة دمشق فرأى مملوكاً صغيراً قد سقط من يده صحن فخار فتكسر، واجتمع عليه الناس، وقال له أحدهم: اجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني، فجمعها الصبي، وذهب بها إليه، فدفع له ثمن ذلك الصحن، وقد عقب ابن بطوطة على هذا بقوله: "هذا من أحسن الأعمال فإن سيد هذا الغلام لابد أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره فينكسر قلبه، ومن أجل ذلك كان هذا الوقف جبراً للقلوب" (?) .