ونحن، بفضل الله، ثم بفضل جهودكم وثباتكم، ماضون في تجلية الشريعة وبيان أحكامها بما يصدر عن المجمع من قرارات فقهية وتوصيات، في كل دورة وندوة. وكما كان أسلافنا الميامين يواجهون المستجدات في عصورهم بالوقوف أمام التحديات المختلفة، معتمدين المصادر الأساسية للفقه وبعض الأصول التابعة لها، أو الملحقة بها، راجعين إلى القواعد العامة الفقهية والمقاصد الشرعية، وإلى فن الأصول الذي نجد فيه تحدي المنهج لاستنباط الأحكام الشرعية، على النحو الذي التزم به عامة الفقهاء من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اليوم، وتحقق به لأمتنا الكشف عن هذه الثروة العظيمة الفقهية القانونية. والله أحمد أن استجاب هذا التراث الخالد إلى حاجات الناس في كل أوضاعهم وجميع تصرفاتهم، سواء أكان ما سعوا إلى ضبطه حكماً شرعياً أم فتوى.
ولقد اعتمدوا في ذلك أساساً النصوص الشرعية واستنبطوا منها الأحكام، وحملوا الواقعات على الإباحة مع تفاوت بينها، وأعطوا المصالح حظاً من الاعتبار جعلهم حريصين على مراعاتها والسير على مقتضى ما صح منها. وإلى هذا المنهج يشير شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما (?) .
وقد فصل هذا الرأي أكمل تفصيل وأبدعه العز بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام في إصلاح الأنام) ، وتبع هذين؛ الإمامان الجليلان الشاطبي في موافقاته، وابن عاشور في مقاصده.
واعتقادي أن مواجهة التحدي في عصرنا الحاضر الذي بلغ التطور فيه حد انقلاب الأوضاع، والثورة عليها جميعاً، وكان به ظهور النوازل والواقعات مما لا تعرف له سابقة في الفقه الإسلامي، يقتضي وجود الفقيه المؤهل لخوض مواجهة التحدي. ولا يكون ذلك إلا بفقه مشكلات العصر، والعلم بمصادر التشريع، واستخدام مناهج الاستنباط، واعتماد مقاصد الشريعة، والمعرفة الواسعة بمقالات الأئمة المجتهدين يُستأنس بها، وتكون للمجتهد معواناً على بلوغ الحق، مع التوجه العام الذي ينبغي أن يراعيه الفقيه في فتواه واجتهاده من مخاطبة العقل والفطرة، وإيثار اليسر على العسر، ولا أحسب حضارتكم إلا خلاصة الصفوة الممثلة لهذا الاتجاه، الناطقة به، والداعية له، القادرة على الترجيح بين آراء المجتهدين والحرص على اختيار أكملها وأهمها وأجداها وأنفعها.
زادنا الله وزادكم من فضله، ووفقنا وسدد خطانا وجعلنا وجعلكم ممن عناه عز وجل بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28] . وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.