وقد كان استقر في نفسي منذ عقود من السنين أن هذا هو رأي الإمام ابن عبد البر، وذلك بسبب قراءتي لما نقله عنه الإمام القرطبي في تفسيره، إلا أني بعد إطلاعي على نص ما قاله ابن عبد البر في الاستذكار والمقارنة بينه وبين ما نقله عنه القرطبي اتضح لي أن القرطبي لم ينقل عبارته كاملة وإنما اقتضبها، فلذلك يتوهم من اطلع على النقل أن ابن عبد البر يرى حمل مشروعية التسمية في الآية على حالة الأكل دون الذبح مع أن عبارة ابن عبد البر صريحة بخلاف ذلك، ومما جاء في كلامه: "إنما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليعلمهم أن المسلم لا يظن به ترك التسمية على ذبيحته، ولا يظن به إلا الخير، وأمره محمول على ذلك ما خفي أمره حتى يستبين فيه غيره " (?) ، وهذا هو الذي نقله أيضا الحافظ ابن حجر عنه في الفتح (?) ، وقد اتضح من هذا التأويل الصحيح للحديث أن التسمية المطلوبة فيه عند الأكل غير التسمية المطلوبة عند التذكية بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ونحوه، وهو مما يتبادر للذهن من أول لحظة، فإنه من المعلوم أن قوله: {لاَ تَأْكُلُواْ} [الأنعام: 121] نهي، والنهي حكمه مستقبلي إذ" لا" الناهية تخلص المضارع للاستقبال، وقوله: {لَمْ يُذْكَرِ} [الأنعام: 121] نفي للذكر فيما مضى فإن المضارع تنصرف دلالته إلى الماضي عندما تدخل عليه "لم " الجازمة، ومثله قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] فإنه أمر بالأكل ودلالة الأمر مستقبلية، وقوله: {ذُكِرَ اسْمُ اللهِ} [الأنعام: 118] دال على أن الذكر واقع بالمأمور بأكله قبل حالة الأكل، ولا حالة أنسب بذلك من حالة التذكية، وقد نص عليها القرآن في قوله عز وجل: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] ، ونصت عليها الأحاديث التي ناطت إباحة الأكل بوقوع التسمية عند الذبح والصيد.
***