ثانيًا: يذهب المؤرخون إلى أن تآكل نفوذ الكنيسة في العصور الوسطى وتزايد هيمنة الملوك عليها سبب نفورًا شديدًا من المؤسسات الدينية ونفورًا من الدين بصفة عامة، يشير ماكس فيبر إلى أن السمة الأساسية للحضارة الغربية المعاصرة هي نزوعها المتزايد نحو الترشيد وأنها تعبر عن هذا الترشيد بعملية العلمنة أو الدنيوية. الترشيد في أحد جوانبه يعني أن المفهوم الغربي تحويل الواقع إلى وسيلة، ولذلك قد صموا آذاننا بوجوب الرجوع إلى الواقع وتحتيم الواقع والنظر بالواقع والأخذ من الواقع، ولكن بهذا المفهوم، بمفهوم تحويل إلى وسيلة بحيث يمكن توظيفه في خدمات معينة. لكن عملية الترشيد هذه تتطلب قدرًا عاليًا من التجريد، إذ إن الإنسان إذا أدرك واقعه بشكله المعين فإنه لا يمكنه توظيفه ولا يمكن التحكم فيه ولابد أنه سيلتفت شاء أو أبي إلى ذلك الإطار المرجعي الذي هو من خارج الإنسان وخارج الحياة، مع تزايد انتشار ما يسمى بالاقتصاد العائلي والصناعات المرتبطة به زادت الحاجة لشراء المواد الخام ولدفع أجور العمال والتكاليف الأخرى، ولذلك تم البحث عن مصادر المعادن النفسية واكتشافها لتوفير العملة اللازمة للتبادل، فابتني الاقتصاد المعاصر كله على النقود، والنقود هي أكثر الأمور تجريدًا، فهي ليست سلعة ولا خدمة، وإنما هي علامة تشير إلى قيمة مجردة، كان هذا القطاع الاقتصادي الجديد من أول القطاعات التي انسلخت من نفوذ النظام الإقطاعي والكنيسة، بحيث أصبح قطاعًا مستقلًا إلى حد كبير يتحرك حسب قيمه المادية الكامنة فيه وقوانين حركته المجردة التي ترفض أن تقيد بأية ضوابط أو قيم أخلاقية، إذ كانت النقود دالًّا يشير إلى مدلول غامض، خدمات وسلع، فهو يصبح دالًّا دون مدلول أو هدف، وفي هذا قمة التجريد، وحين يدخل الاقتصاد الجديد مرحلة التراكم يصبح الإنسان جزءًا من عملية لا يحكمها تمامًا ثمثل بذاتها الغاية والوسيلة عملية تتحرك دون هدف واضح، ساهمت حركة الاكتشاف في توسيع آفاق الإنسان وظهور تعددية في الرؤيا تولد إحساسًا بنسبة الواقع مما قوى من دعائم الإيمان الديني، ولكن هذه النسبية جعلت العقل قادرًا على تجاوز المعطيات المتعينة التي يشاهدها ويشعر بها الإصلاح الديني البروتستاني الذي شكل أول خطوة نحو علمنة عقل الإنسان الغربي، إذ جعل الخلاص مسألة فردية , وجَعْلُ الدين أمرًا فرديًّا خاصًّا هو الذي ساعد على جعل عمليات التحول تتم من خلال قضايا سميت بقضايا التقشف والعمل المضني المستمر، وقد قضي الإصلاح الديني على أهم المؤسسات الوسيطة وهي الكنيسة بكل مؤسساتها، وظهرت الفلسفة الإنسانية التي وضعت الإنسان في مركز الكون بحيث يصبح هو الهدف النهائي لوجوده ولا هدف له بعد ذلك، وتطور العلم والفلسفات العلمية والمادية التي وضعت المادة في مركز الكون وحاولت أن تنظر لكل شيء من منظور دنيوي محض، هذه الفلسفة بكل تضاريسها، بكل أبعادها شهدت تصاعدًا ملحوظًا وتنمية لتجعل منها دينًا بديلًا يمكن أن يحل - أو يريد أن يحله أصحابه - محل سائر الأديان وليس الإسلام وحده.
وتتخذ العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية الإطار الذي تنطلق منه ومن خلاله هذه الدنيوية لفرض ذاتها على العالم الجديد، وما لم تتم عملية أسلمة مقابل علمنة لهذه العلوم الإنسانية والاجتماعية تجعل للمسلمين علومًا إنسانية واجتماعية من منطلق إسلامي تستمد من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاحظ تراثنا واحتياجاتنا وتلاحظ هذا العالم من منظور الإسلام لا من منظور الغرب ويكون لها مرجعها لا يمكن أن تواجه هذه الهجمة الجديدة للدنيوية وشكرًا.