الدكتور طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا شك أن فترة السنوات الثلاثة الماضية قد شهدت مرحلة انهيار التوازن العالمي الذي قام في العالم بعد الحرب العالمية الثانية وأدى بدوره إلى تفرد الولايات المتحدة الأمريكية نسبيًّا في الشؤون الدولية، ولا شك أن انهيارًا عربيًّا قد حدث خلال هذه الفترة , عبرت عنه تلك السياسة المعروفة التي كانت كارثة الخليج الثانية التعبير المتأخر عنه بقدر ما كانت كارثة الخليج الأولي تمهيدًا ضروريًّا له، وقد بدأ هذا الانهيار بوضوح بتجاوز كل ما كان متعارفًا عليه في ظل نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الدولي , أو ما يسمى بفترة الخمسينيات والستينيات كالجامعة العربية ومؤتمرات القمة ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من أطر ومحاور التفاهم والتنسيق خاصة في عالمنا الإسلامي.. , ومن الواضح أن النظام العالمي الجديد الذي يأخذ المسلمون فيه دور المفعول به والمفعول فيه بأجلى شك يقوم على قواعد ثلاث: الديمقراطية في المجال السياسي، الاقتصاد الحر الرأسمالي في المجال الاقتصادي، العلمانية كفلسفة فكرية وثقافية وإطار مرجعي لسائر قضايا الفكر والثقافة والنظم ومناهج الحياة.
الغزو الفكري بشكله المألوف قد تغير ليصبح الآن محاولة ذات ثلاث شعب تقوم على هذه الأسس الثلاث: الديمقراطية في النظام السياسي، الاقتصاد الحر الرأسمالي في المجال الاقتصادي، العلمانية كفلسفة فكرية وثقافية وإطار مرجعي لسائر قضايا الفكر والثقافة والنظم ومناهج الحياة.
أود أن أتجاوز المجالين الأول والثاني المجال السياسي والمجال الاقتصادي إلى المجال الثالث الذي هو المجال الفكري. العلمانية مصطلح من أكثر المصطلحات غموضًا وإبهامًا في لغتنا العربية، وقد رأيت الأخوة الباحثين الذين تناولوا هذا المصطلح ترددوا بين معان مختلفة لهذا المصطلح الغامض، ذلك لأنه مصطلح منقول من نسب حضاري مختلف، فدلالته الحقيقة لا يمكن تحديدها إلا بمعرفة ذلك النسب الحضاري بكل تفاصيله وبحل جوانبه , هذا النسب الحضاري فيه عدة تشكيلات فرعية , فهناك التشكيل الفرنسي الكاثوليكي وهناك التشكيل الإنجليزي والألماني والتشكيل الأمريكي مؤخرًا , وكل تشكيل له تعريفه ومصلحه الخاصة بالنسبة للعلمانية. ولقد خاضت هذه التشكيلات الحضارية تحولات مختلفة وتزايدت فيها معدلات العلمنة , واختلفت مواقفها من العلمانية باختلاف المرحلة التاريخية , وباختلاف الجماعة التي تقوم بعملية التعريف، ومع انتقال المصطلح إلى عالمنا العربي والإسلامي فإن المجال الدلالي للكلمة أصبح مجالًا شديد الاضطراب وسبّب اختلالًا في الفكرة المأخوذة عن هذا المجال. فمن المفكرين ومن بعض الباحثين من يرى أن أدق ترجمة للمصطلح هي العلمانية بكسر العين نسبة إلى العِلم أو بفتح العين نسبة إلى العالم، ويذهب البعض إلى تسميتها بالدنيوية، أي: الإقبال على الحياة الدنيا وحدها والإعراض عن الآخرة , وحسب هذه التسمية , فالعلمانية هي الظاهرة ـ باعتبارها ـ الزمنية أي أن كل الظواهر مرتبطة بالزمان وبالحياة الدنيا ولا علاقة لها بأي غيب، وأن كل ما يحدث في هذه الحياة لا يجوز نسبته إلى أي غيب , وأن هذه الحياة الدنيا هي الإطار المرجعي لكل شيء.