“ الاستصفاء والتذوق ” قدرة على توليد المعاني والصور، فهو فطنة بحقيقة الجمال، وقوّة في تفكيكها وإذابة دلالاتها. هذه القدرة لا يبقى معها جمال لا يداخله السأم. أو لا تصرف عنه صوارف الفهم والاكتفاء، ويؤيد حمزة هذا الوعي الجمالي بفكرة مضادة تكشف جانباً من جوانب الإبهام في القضية فالمصائب أعمق أثراً في النفوس من الجمال، ومع هذا تفقد تأثيرها بالاعتياد والإلف والسلوى (?) .
وهذه “ الحقيقة الجمالية ” نجدها لدى عشاق الشعر وهواة الفنون كما ألفيناها لدى عشاق الجمال، والباحثين عن غرائبه، فصور الشعر، وروائعه انتهى الاستصفاء والتذوق بها إلى أن تكون بمثابة الحقائق المألوفة والكلام المعاد (?) .
إن الشيء الجميل يصدمنا لأوّل مرّة ((بحشد من معانيه الفاتنة، ليست هي أداءه عن نفسه، ولكن أداءنا عنه، وعن موقعه من نفوسنا وأفكارنا فما نفتأ ندور بهذه المعاني مطابقة وقياساً ومداً وجزراً وإطلاقاً وتقييداً حتى نشعر بنشوة امتلاكه واحتوائه، فإذا الاكتفاء أو التجدد المنتهي إلى انقضاء التأثير فيستحيل شعورنا بالصورة الفاتنة إلى ما يشبه شعور العاشق بعد إفاقته من غيوبته واستغراقه)) (?) .
إن “ حقيقة الصورة الجميلة ” تظل قائمة، ولكن ثراء الدلالة، وخصوبة الأثر الجمالي هي التي تفنى عند أصحاب الرؤى الفياضة، والأفكار النافذة التي لا ترضى من الجمال بالظاهر، وإنما تبحث عن غرائبه، ودقائق معانيه لتفضي إلى قيمته الحقيقيّة، فالماء يظل ماءً بعد أن يروي العاطش منه. ولكن الذي يفنى هي تلك الخطرات النفسية، والتصورات الذهنية التي نجدها عند من بلغ به الظمأ مبلغه فإذا ما ارتوى تلاشت تلك الخطرات، وظل الماء على حقيقته (?)