لهذا، ولفظ الآية على أن (مِن) فيه للتبعيض يؤيّد مذهب الجمهور كما يؤيده الفرق الَّذي جعله علماء الأصول بين فرض العين وفرض الكفاية، وهو أن فرض الكفاية يتميّز عن فرض العين بأنه لا تتكرّر مصلحته إذا فعل، فمثلاً يقولون: إنقاذ الغريق واجب كفاية؛ فإذا غرق غريق ووجد من ينقذه من البحر، فلو غمس المنقذ مرّة أخرى في البحر لم يُحصّل فائدة، بخلاف فرض العين فإِنَّ المصلحة تتكرر من فعله دائمًا كما في تكرير الصلوات الخمس من الخشوع والانكسار أمام الخالق فإِنَّ هذه المصلحة تتكرّر بتكرّر الصلاة.
وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود بقوله:
مزه من العيني بأن قد حظلا
(
تكريرُ مصلحته إن فُعلا
وعلى هذا فيتعذّر كون النهي عن منكر بعينه فرض عين لأنّ ذلك المنكر إذا غيّره أحد وتغيّر بالفعل لم يبق هناك شيء مطالب به ذلك المغيِّر مرّة أخرى ولا غير مطالب به أَيضًا، وعلى هذا فلا بد من تلمّس جمع بين القولين لأنّ إعمال الدليلين أولى من إعمال أحدهما وإلغاء الآخر، والجمع واجب بين الأدلة متى أمكن.
الجمع بين القولين:
الَّذي يظهر لي والله تعالى أعلم أَنَّه يتعيّن الجمع بين القولين المتقدّمين، ووجه الجمع عندي أنّ الأمر بالمعروف الَّذي هو الدعاء إلى الخير والنهي عن المنكر الَّذي هو الزجر عن الشر وهذا أمران أساسيان للدعوة إلى الله ولاسيما في زمننا هذا ينقسمان إلى قسمين: عام وخاص.