والحسد في الأصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة، وإلا فالعامل لا يحسد في العادة، ولو كان تنعمه بالأكل والشرب والنكاح أكثر من غيره، بخلاف هذين النوعين فإنهما يُحسدان كثيراً، ولهذا يوجد بين أهل العلم الذين لهم أتباع من الحسد ما لا يوجد فيمن ليس كذلك، وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله، فهذا ينفع الناس بقوت القلوب وهذا ينفعهم بقوت الأبدان، والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا ...
إلى أن قال: وأما الحسد المذموم كله فقد قال تعالى في حق اليهود: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ((?) يودون: أي يتمنون ارتدادكم حسداً، فجعل الحسد هو الموجب لذلك الود من بعد ما تبين لهم الحق، لأنهم لما رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل؛ بل ما لم يحصل لهم مثله حسدوكم ...
فالحاسد المبغض للنعمة على من أنعم اللَّه عليه بها ظالم معتدٍ، والكاره لتفضيله المحب لمماثلته منهي عن ذلك إلاَّ فيما يقربه إلى اللَّه، فإذا أحب أن يعطى مثل ما أعطى مما يقربه إلى اللَّه فهذا لا بأس به، وإعراض قلبه عن هذا بحيث لا ينظر إلى حال الغير أفضل.
ثم هذا الحسد إن عمل بموجبه صاحبه كان ظالماً معتدياً مستحقاً للعقوبة إلاَّ أن يتوب، وكان المحسود مظلوماً مأموراً بالصبر والتقوى، فيصبر على أذى الحاسد، ويعفو ويصفح عنه، كما قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ((?) .