وكلا الاتجاهين ينمانِ عن غيبوبة فكرية، في عصر من عصور الانحطاط والتخلف يتخذ من مقولة إنسانية الفكر وكونية العالم متكئاً لطرحه النقدي، وفي هذا الكلام حق وباطل فالإنسان لا يمكن أن يعيش بمعزل عن التأثر والتأثير، فإما أن يكون مؤثراً وفاعلاً في حركة التاريخ، وإلا سحقته العجلة، ولفظه العالم خارج السياق، وبهذا يكون ملاذاً لكل فكر تخطته صيرورة الحياة، وقام على أنقاضه فكر جديد.
إن التراث العربي في أزهى عصوره لم يقف متخاذلاً يتغنى بماضيه، بل زاحم تراث الأمم الأخرى وأثر فيها، وتأثر بها، ولكنه ظل تراثاً إسلامياً في تصوره، عربياً في محياه؛ لأن الأمة كانت غالبة، يعتد فيها المفكر والشاعر بأمته، ويفتخر بإرثها الحضاري والثقافي، أما الذي يحدث في عصرنا هذا فهو بالضد مما كان، إذ شاع لدى كثير من الباحثين الإيمان بضآلة الأمة، والتنصل من كل ما يمت لها بصلة، فكان المثقف الجديد انهزامياً في داخله، مستهلكاً لثقافة غيره، مغلوباً على أمره. يقول الدكتور عبد الحكيم حسان: ((لعل أهم ما يفرق بين اتصال العرب بالثقافات الأجنبية في القرون الوسطى وبين اتصالهم بالثقافة الأوروبية في العصر الحديث أن العرب في العصر العباسي اتصلوا بثقافات ميتة سياسياً كالثقافة الهيلينّية، أو مغلوبة كالثقافة الفارسية، أو ليست ذات تأثير من هذه الناحية كالثقافة الهندية. أما في العصر الحديث فقد اتصلوا بثقافة حية متفوقة، وذات تأثير سياسي بالغ القوة. ولهذا فإن إحساس العرب في العصر العباسي بأنهم سادة موقفهم، وأنهم أحرار في اختيار ما يروقهم ورفض مالا يرضيهم من هذه الثقافات لم يكن له وجود في العصر الحديث الذي أحس العرب فيه بالإضافة إلى الشعور بالضعف العسكري بالنسبة للغرب، ثم الخضوع لنفوذه السياسي - بالحاجة الماسة إلى الإصلاح وإلى تغذية تراثهم الثقافي بدم جديد يعينه على النهوض ومواكبة الركب الحضاري الحديث