إن الأزمات والمحن هي “ المحفزات ” التي تنشط خلايا الثقافة، وتجدد دماءها كما حصل في تاريخ الأمة في القرن الرابع الهجري، وكما حدث بعد سقوط دولة الخلافة، وتداعي القوى الكبرى حيث هبّ دعاة الإصلاح الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربيّة، والشوكاني في اليمن، والأفغاني ومحمد عبده في مصر، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، والكواكبي في بلاد الشام ( [26] ) .
والثقافة العربية في أزماتها الماحقة منذ 1967 م كانت حالة نشاز، كانت شذوذاً عن القانون الحضاري، حيث لم ترتفع حمى المرض في جسد الأمة، فكانت قوى المناعة تغط في سبات عميق، مع أن العالم العربي يتثاقف مع الغرب، ويستهلك كل أدوات تحديثه ( [27] ) .
بين “ الارتماء ” و “ الانكفاء ” أين تكمن المثاقفة الراشدة، وما السبيل إلى تحقيقها؟!
“ المرتمون ” و “ المنكفئون ” كُلٌّ يدعي الأصالة، والانتماء. وكُلٌّ يرى في الآخر وجهاً من وجوه التخلف والانهزاميّة، وسبباً من أسباب تعثر الأمة في شهودها الثقافي الخلاق.
“ المرتمون ” لا يُقرون باستلابهم الثقافي وغربتهم الفكرية، و“ المنكفئون ” لا يعترفون بعجزهم وخوفهم من الجهاز المعرفي عند الغرب، فالأزمة تكمن في القدرة لدى الفريقين على اكتشاف الذات ونقدها، هناك استسلام مفعم بالطمأنينة في المعتقد والمنهج والمعرفة، وليس هناك رغبة في الاعتراف بالقصور الذاتي والنقص ((هذه الغبطة هي العائق عن اكتشاف الفرد لذاته لأنه لم يدرك أنه يعيش استلاباً كاملاً، فهو يتوهم أنه تام التفرد.. لذلك يندر في الناس من يخترق هذا العائق؛ لأنه أصلاً لا يعلم بوجوده فلا يحاول اكتشافه فضلاً عن اختراقه)) ( [28] ) .