وممّا عزّز هذا الانسلاخ وهذه المثاقفة غير المتكافئة كون القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين مهادَ ركودٍ حضاري وهزائم عسكرية مما أشعل فتيل الإحساس بالدونية والغبن الحضاري، وانطفاء الإحساس بالكرامة وقيم الانتماء، فضعفت المباديء في النفوس، وتحطمت الإرادة.

هذا الفراغ الحضاري في العالم الإسلامي الذي تقابله كتلة حضارية هائلة في الغرب أحدث خللاً في التوازن الاستراتيجي بين الثقافتين العربية الإسلامية والثقافة الغربية المسيحية، فعمدت الحضارة الغربية إلى تصدير ثقافتها عبر ترسانة إعلاميّة هائلة تضخ قيماً ثقافية تكرّس الاستعلاء والغَلَبة وتمارس إرهاباً فكرياً، وغسيلاً عقلياً منظماً يزلزل القيم، ويتلاعب بالعقول ابتداءً من دعايات الكوكاكولا، وانتهاءً بأفلام سلفستر ستالون، وبطولات الهكرز، ودراسات المستقبل ( [22] ) .

هذا الركود الحضاري وتلك الهزائم المتتالية كانا مناخاً مناسباً لنشوء أورام سرطانية ثارت على نظام الجسد الاجتماعي وبدأت تفتك بخلاياه ونسيجه الداخلي، فاستحالت الثقافة العربية إلى ساحة حرب أهليّة، وسجال مغالط، عطل قدراتها، وأفقدها القدرة على الاستبصار، وجرّها إلى صناعة ثنائيات متضادّة كالأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، والرجعيّة والتقدميّة، والعقلانية والعرفانية، والذكورة والأنوثة وما إلى ذلك ( [23] ) .

وتحوّل المجتمع الثقافي إلى طوائف متنافية ينكر بعضها بعضاً. واشتغل المثقفون بالتجريح والاتهامات وتصيّد العثرات، والتنابز بتهم العمالة والزندقة، والتخلف والخنوع حتى أصبحت الثقافة العربيّة ثقافة شتائمية قوامها التنافي، وليس التنامي والتكامل ( [24] ) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015