فكرر الشاعر اللازمة (أنا كئيب، أنا غريب) مرتين، شكل منها مساحات واسعة، وفضاءات ممتدة داخل النص الشعري، حتى أننا نلمح معاني هذه الكلمات ودلالالتها في كل سطر شعري مع اختلاف في الأنماط الأسلوبية المستخدمة والاشتقاقات اللغوية المتعددة، فكلمة (كئيب) ذكر مرادفات لها كآبتي، كآبة، اكتئاب) حتى أنه جعل من بعضها لوازم أخرى مساندة للازمة الرئيسية مثل قوله (أما اكتئابي فلوعة سكنت) فكررها مرتين، لأن إحساس الشاعر بالغربة والاغتراب جعله يوزع دوائر الإيقاع المكاني، حتى لا يدع مجالاً للشك بأنه غريب، بل إن غربته تختلف عن غربة غيره من البشر، فهي لا تفارقه سكنت روحه وتبقى معه إلى الأبد وأنها غربة قاسية (لم يسمع الدهر مثل قسوتها في يقظة ولا حلم) بينما كآبة الناس شعلة تتقد وتخفو ثم تزول، ولم يشاركه أحد هذه الهموم في هذه الغربة ولم يحس بها أحد أيضاً لأنه يعيش غربة روحية وفكرية لم يستطع التكيف مع واقعه الاجتماعي، فجنح إلى الهجرة الروحية فتعلقت همته ببيئة أخرى مثالية يحيا بها بروحه ويحلق فيها بخياله. ولكن هذا الإحساس لم يجعله يهرب من الواقع ليعشق ذاته وإنما كان هذا الإحساس دافعاً له للبحث عن عالم آخر، وبديل للعالم الذي تصفو فيه روحه ويتخلص من آثام الدنيا وشرورها وجهل الناس ولؤمهم (1) .
ولم يكتف بأن يجعل من اللازمة افتتاحية وانطلاقة لثورته وتمرده، بل جعل منها رابطاً قوياً بين مطلع النص ومركزيته فكثف هذه اللازمة في بؤرة النص يقول:
وبحار لا تغشيها الغيوم
وربيع مشرق حلو جميل
وابتسامات ولكن واساه
آه ما أشقى قلوب الناس آه
كان في قلبي فجر ونجوم
وأناشيد وأطيار تحوم
كان في قلبي صياح وإياه
آه ما أهول اعصار الحياة
كان في قلبي فجر ونجوم
فإذا الكل ظلام وسديم
كان في قلبي فجر ونجوم (2)