أما تكرار الحرف (الصوت المعزول) فلم يكثر منه في شعره ومرد ذلك كما اعتقد – أن الحرف لا يستطيع أن يستوعب هذه المصائب والهموم ولا يستطيع أن ينقل صوته الثائر وروحه المتمردة إلا عبر كل متكامل وهو الكلمة، كما أن الحرف يعبر عن أحادية الكلمة التي لا تؤدي وظيفة وحدها والشاعر نزّاع إلى الثنائية أو التوحد مع الآخر، ولكن هذا لا يمنع من تكرار الشاعر لبعض الحروف كحرف الواو بشكل خضع لبعض التداعيات الرأسية المعمقة كما في قصيدته "ياموت" حيث كرر هذا الحرف أربع وعشرين مرة يقول:
يا موت قد مزقت صدري
ورميتني من حالق
وقسوت إذا أبقيتني
وفجحتي فيمن أحب
وقسمت بالأرزاء ظهري
وسخرت مني أيَّ سخر
في الكون أذرع كل وعر
ومن إليه ابث سري (1)
فيوصل تكرار الواو في بداية السطر الشعري بشكل مكثف وكأنه بذلك يعرض ما آلت إليه حاله بعد وفاة والده بشكل مفصل متصل بتتابع أسلوبي يرتبط كل واو "بحدث معين يعكس من خلاله صورة من صور حياته (ورمتيني، وسخرت، وقسوت، وفقدت…) ، مما يجعلنا نجزم أن لهذا التكرار علاقة مع الموقف الحزين المؤلم الذي يقفه الشاعر فتكرار هذا الحرف يجسد حالة الشاعر النفسية وما آلت إليه بعد فقد عزيز عليه وطبيعة الموقف تستدعي هذا التكرار حتى أن الأفعال التي تلاحمت مع الواو جاءت متلاحقة متعاقبة وكأنه بذلك يشرح المراحل النفسية التي عانى منها الشاعر لأن والده كان بمثابة الفجر الجميل والمزمار الذي يعزف على أوتاره، وكأس خمره وغايته وكل ما في الوجود، فحمّل الواو دلالات متنوعة وطرائق أسلوبية متعددة تراوحت بين الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنها أزمان متشابهة بعد وفاة والده ومن هنا جاء توسيعه وتعداده لدلالات الواو التي امتدت بشكل رأسي معمق مترابط متوالي، يخضع للتداعي وتعداد صور الأشياء (2) .