ولأجل ضبط قياسات اللغة، واستخراجها من منطوق العرب، والوصول بالمتعلم إلى الرتب العليا في معرفة أصول اللغة، حرص العلماء على الإكثار من التعمّق في اللغة بغية الضبط والتقنين والتقعيد؛ لأن الضوابط والقوانين والقواعد هي التي يَسهل تعلمها ويُقبل عليها الخلق الكثير، بعكس حفظ اللغة ومتونها وألفاظها، فهذه لا يصل إليها إلا الخاصة.
وحين ينتقد المتأخرون هؤلاء العلماء الأسلاف على هذا الضبط، فإن ذلك ليس مسوّغًا للنقد والخروج على هؤلاء بمحاولة بعثرة هذا الجهد، وسيكون البديل معدومًا عندهم.
أذكر ذلك حين اطلعت على مقالة للدكتور كمال بشر في مفهوم علم الصرف (1) ، والذي يحاول أن يخرج كثيرًا من المباحث والأبواب من علم الصرف؛ لعدم استقامة القاعدة واطّرادها، أو أن متن اللغة أولى بها من الصرف، ولو بقيت تلك المباحث التي عدّها الدكتور بشر من اللغة بعيدة عن الصرف، وصار مجالها المعاجم والقواميس لأصبحت بمنأى عن التعلُّم والإدراك، ولا يحتج بصعوبة ظاهرة من الظواهر على إخراجها من أحد العلوم.
2- الجمع بين النحو والصرف في مؤلف واحد كان ديدن العلماء الذين ألفوا في النحو، وممّا يلفت له أن النحو متقدّم على الصرف في أكثر تلك المصنفات، مع أن معرفة التصريف تتقدم تسلسلاً على معرفة النحو، ولهذا يوضّح ابن جنيّ العلة في ذلك فيقول:» من الواجب على من أراد معرفة النحو أن يبدأ بمعرفة التصريف؛ لأن معرفة ذات الشيء الثابتة ينبغي أن يكون أصلاً لمعرفة حاله المتنقلة، إلاّ أن هذا الضرب من العلم لما كان عويصًا صعبًا بُدئ قبله بمعرفة النحو، ثم جيء به بَعْد، ليكون الارتياضُ في النحو موطّئًا للدخول فيه، ومعينًا على معرفة أغراضه ومعانيه، وعلى تصرّف الحال « (2) .