وقد تقرر أن الأصل حمل الألفاظ على حقائقها الشرعية إلا أن تصرفها قرينة أو دلالة إلى أحد معانيها الأخرى، وعليه فإن معنى قوله تعالى: {وَاسْجُدِي} على ظاهره في معناه الشرعي (1) ، وخُص بالذكر وقدم على الركوع لشرفه وفضله على سائر هيئات الصلاة (2) ، أما الركوع فقد خلت منه صلاة اليهود والنصارى (3) ، فلهذا جاز حمله هنا على مطلق الصلاة أي صلي مع المصلين وقد تضمن ذلك الأمر بصلاتها مع جماعة، وتلك خِصِّيصة لها من بين نساء بني اسرائيل (4) ، والذين من قبلنا كانت لهم صلاة لكنها ليست مماثلة لصلاتنا في أوقاتها وهيئاتها (5) ، فلا يلزم أن يكون في صلاة من قبلنا ركوع مثل ركوعنا، وكذلك ما ذكر من السجود لا يلزم أن يكون على الصورة التي عليها شرعنا تماما، وإنما هو مطلق السجود (6) .
ومن العلماء من اعتد بالأصل اللغوي في هذه الآية، وهو الخشوع، أي اخشعي لله مع من خشع له من خلقه شكرا له على ما أكرمك به من الاصطفاء (7) ، وذلك يتضمن معنى آخر للآية بالإضافة إلى الصلاة، لأن قوله تعالى: {وَاسْجُدِي} قد أفاد معنى الصلاة إذ هو جزء منها.
ولما كان موضوع الآية في مقام الشكر على ما أنعم الله به على مريم من مزيد المواهب والعطايا (8) ((قال قوم: تأويلها اسجدي: أي صلي {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} : أي اشكري لله جل ثناؤه مع الشاكرين)) (9) ، نقل هذا التأويل اللغوي الحاذق ابن فارس
(ت395هـ) مستشهدا به على أنه يقال: ((للساجد شكراً: راكع)) (10) .
عاشراً - سجود مؤمني أهل الكتاب:
قال الله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران/113) .