ومما يدلّ على أن سجودهم كان على الجباه قوله تعالى: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر/29،ص/72) ، حيث أمرهم بالوقوع وهو السقوط (1) ، قال ابن جرير (ت310هـ) في تفسير هذه الجملة: ((يقول فاسجدوا له وخِرّوا له سجدا)) (2) ، ومن المرجحات لقول الجمهور أن الأصل في حكم اللفظ أن يكون محمولا على بابه وحقيقته (3) ، ولا شك أن هذا يتأكد إذا كان معه قرينة تدل عليه كما في هذا السجود، ولهذا قال ابن عطية (ت541هـ) : ((وهذه اللفظة [فَقَعُوا] تُقوّي أن سجود الملائكة إنما كان كالمعهود عندنا لا أنه خضوع وتسليم واشارة كما قال بعض الناس)) (4) ، لكنه - رحمه الله - ناقض نفسه في موضع آخر من تفسيره، فقال: وقوله تعالى: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} لا دليل فيه، لأن الجاثي على ركبتيه واقع (5) ، وما اعتلّ به منقوض بكلامه الآنف الذكر، كما أن الجثيّ لا يلزم منه الإنحناء (6) ، فهذه هيئة مغايرة للهيئات التي ذكرها العلماء في سجود الملائكة لآدم عليهم السلام. والله أعلم.

ثالثاً - سجود النبيين عليهم الصلاة والسلام:

قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (مريم/58) .

{آيَاتُ الرَّحْمَنِ} : كلام الله المتضمن حججه ودلائله مما أنزله على أنبيائه في كتبهم (7) .

{خَرُّوا} : الخرور هو السقوط والهوي إلى الأرض (8) .

{وَبُكِيًّا} : بضم الباء وبكسرها لغتان مستفيضتان وقراءتان سبعيتان، جمع باك وهو فاعل على فُعول، كساجد وسُجود، لكن قلبت الواو ياء، فأدغمت نحو جاث وجثي (9) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015