نسبتها وما يحصل منهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد مما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها.
ونزيد على قول ذلك العالم الجليل إن في جسم الحضارة شوائب وأدواء البداوة سليمة منها. فإن أهل الحضر يجمعون في طباعهم بين الأنانية والاستئثار بالنفع والكذب والنفاق والسرقة فتنزع نفوسهم إلى الشر والفساد وأما أهل البدو فهم أبعد عن تلك العيوب والمثالب لأن الخيرات عندهم وافرة فلا يتسرب الطمع إلى نفوسهم ولا يجد حب الذات من قلوبهم مكاناً رحيباً.
وليس الانتحار إلا داء من أدواء المدنية الحديثة يلجأ إليه كل بائس ظلمه ذلك المجتمع الإنساني وأهمل شأنه وهو في حاجة إليه.
ولذا ترى قتل النفس يزداد رويداً رويداً في كل البلدان التي انتشرت فيها المدنية وهو على الأكثر في المدن الكبرى حيث معترك الحياة أشد باساً ونار الجهاد في سبيل هذه الحياة الدنيا أحمى وطيساً وعلى أقله في القرى الصغيرة وبين الفلاحين وحيث يجد كل إنسان عملاً يعمله هو. وحيث لا ترى المرأة تتبرج وتتزين فتأخذ بعقل الرجل وحيث لا حانات يأوي إليها الفتيان فيزيدون جنونهم بما لديهم من المال القليل وحيث الطبيعة ساكنة هادئة تشهد بجمال الخالق وقدرته وكماله.
هل الانتحار عدل؟
لا يستطيع الكاتب أن يبوح برأيه في أمر قتل النفس بعد أن بينه هذا التبيين ويجدر بالقارئ أن يحكم على الأمر بنفسه. وغير نكير أن الحياة كلها شر وأن الخير فيها صائر إلى الزوال. . . وإن ذوي المفسدة ينالون ما لا يناله أهل الخير والفضل. ونعم إن حب الحياة فطرة في الإنسان فهو لا يعمد إلى قتل نفسه إلا إذا بلغت به الهموم والأحزان أو الفقر والفاقة مبلغاً شديداً أو نال منه داءُ لا يرجى شفاؤه أو غرام مبرح منالاً كبيراً أو أبت نفسه الذل بعد العز. وتلك أمر ولا يعرفها إلا من يذوق مرّها لأن الشوق لا يعرفه إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها. ونحن نعلم أن أحد هذه البواعث يحدث في العقل جنوناً فيقتل المجنون نفسه. فهلا التمسنا عذراً للمجانين؟