الوهاب. قام هذا بين قوم تغلب عليهم السذاجة البدوية والفطرة العربية فصاح فيهم صيحة أراد بها زحزحتهم عما كانوا فيه من العبادات والمعاملات لأنها من شأن أهل الجاهلية منافية للإسلام فأذعن أعلامه بين أناس ما عرفوا إلا الشرك والوثنية. وكان نصيب هذا الداعية من علماء عصره أن بدّعوه وفسقوه وكفروه ولو طالت إليه يد الأشرار لمزقوه كل ممزق وجعلوه سلفاً ومثلاً للآخرين.
نعم نفعت تلك البادية في بث الدعوة بلا تقية ولا مصانعة أكثر من الشام ومصر زمن ابن تيمية. والدعوات كلها سياسةً كانت أو علمية ما فتئت تبدأ في البوادي والأقاصي ثم تمتد امتداد شواظ من نار فتلتهم الأقرب فالأقرب. وأهل المدن يستغرقون في الترف على الأغلب ويتبنكون النعيم حتى تكاد تنزع منهم وجداناتهم إلا قليلاً فيلجأون إلى المشاغبة في كل ما لم يألفوه والتمويه في الحق والباطل. ولذلك ترى سكان الجبال والأرياف أنشط في كسب العلم وأرغب في التجديد ونزع التقليد لبعدهم عن نشأة السرف والترف.
ومعاذ الله أن يفهم من هذا القول أن ابن تيمية لم يحسن استخدام التقية وابن عبد الوهاب أحسنها ولكن الأول جمع الشروط كلها فخانته بيئته وأسلمه قومه لأهواء الحاسدين. وهذا هو السبب الذي من أجله اعتاد بعض أصحاب الأفكار والمجددين المصلحين منذ القديم أن يهجروا مساقط رؤوسهم لبث دعوتهم وترويج بضاعتهم كما ترحل التاجر بتجارته والصانع بنتائج صنعته. عهدنا معظم العلماء لما أن يشتد عليهم في وطنهم الضغط الناشئ من حسد حاسد وكيد كائد ينزلون صعقاً آخر ليقدروا بقيمهم الحقيقية ويثمنوا بما يساوون. كان هذا شائعاً في بلاد الإسلام أيام كان فيها بقايا من العلم ونسيس من الحياة الاجتماعية فكان العالم إذا كُرب أن تُكربه التقية في بغداد يهجرها إلى الشام وإذا اشتدت به الحال هنا يغادرها إلى مصر أو المغرب أو الأندلس وإذا وقع عليه ما لا ترضى به نفسه في الروم يرحل إلى فارس.
إليك حكم التقية في العلم والعلماء والدين والأمراء. ولم أفض فيما يستعمله أهل السياسة من التقية لأن ما هم بسبيله مبني في الغالب على الخديعة والحيل مدعوم بالرهبوت والجبروت مصبوغ كل يوم بصبغة تخالف صبغة أمس.
وأني لأرجو أن لا يكون جماع أهل العلم والسياسة داخلين في غمار من وصفه أحد