ترى دور الخلفاء مجمع الأدباء والشعراء والعلماء وذلك لرغبة الخلفاء وميلهم للعلم وإجلال أهله وقد بالغوا في أكرام العلماء وقربوهم وجالسوهم وواكلوهم وحادثوهم وعولوا على آرائهم حتى لم يبق ذو علم أو أدب أو قريحة إلا وقصد دار السلام ونال جائزة أو هدية أو راتباً وكم تجود قريحة العالم عند ما يرى نفسه مبجلاً محترماً مقدوراً تعبه حق قدره وأفكاره ترتع في رياض الحرية ليس لأحد عليه سلطة يجاهر بكل ما يعتقده ما دام الدليل حليفه والبرهان مجنه وليس شيء ادعى لقتل الأفكار والمعتقدات من التحكم بها وقد اشتهر بنو العباس بأنهم حماة الرأي ناصروا العلماء حتى المخالفين لهم في المعتقدات وهي مزية عظيمة بها نضجت ثمار العلم وطاب مذاقه والعلم لا ينضج إلا إذا كان تحت عناية أمير تربيته والناس على دين ملوكهم.
أول من اعتنى بالترجمة من العباسيين أبو جعفر المنصور وكان شديد الكلف بعلم النجوم وقد تقرب إليه كثيراً من علماء الفرس إذ كانت لهم معرفة زائدة بهذا العلم وأشهر من تقرب للمنصور توبخت المنجم الفارسي ترجم له كتباً كثيرة وكان يصحبه حيثما توجه وممن خدم المنصور في النجوم إبراهيم الفزاري وابنه محمد وعلي بن عيسى الاسطرلابي المنجم وقد قصد المنصور رجل من الهند سنة 156هـ - قيم في حساب الهند وعرض عليه كتاباً في النجوم مع تعاديل معمولة على مذاهب الهند فأمر المنصور أن ينقل هذا الكتاب إلى العربية وان تؤلف فيه كتاب يتخذه العرب أصلاً في حركات الكواكب فتولى هذا الأمر إبراهيم الفزاري وعمل كتاباً سماه المنجمون السند هند الكبير وظل أهل هذا الزمن يعملون به إلى أيام المأمون. وممن تقرب إلى المنصور جورجس وهو أول من ابتدأ بنقل الكتب الطبية إلى العربية عندما استدعاه المنصور وكان كثير الإحسان إليه ومنهم البطريق كان أيام المنصور قد نقل كتباً كثيرة في الطب من تأليف ابوقراط وجالينوس وكان اهتمام المنصور بنقل الكتب الطبية لا يقل عن اهتمامه بالنجوم فقد بعث بطلب جورجيس بن بختيشوع السرياني الذي كان ماهراً بالطب ذكياً فطناً ذا هيبة ووقار وذلك على اثر علة أصابت المنصور فلما شفي ورجع إلى مزاجه منعه من الرجوع إلى بلده وجعل له مكاناً علياً لما فطر عليه من الصدق والأمانة والتدين وكان جورجيس هذا يعرف اللغة اليونانية فضلاً عن السريانية والفارسية والعربية ونقل كتباً كثيرة من اليونانية إلى العربية وقد مال