كانوا يرهقونها من أمرها عسرا فأخذت تتنافس في إقامة الأبراج وتحب كل منها أن تكون كنيستها أوسع وأكثر بهجة واغني وخطيبها أشهر ومتفنن أشهر. وأنشأت تبحث عن الرجل الذي يكون اقدر من غيره على التغني بأمجادها في أشعاره وتعظيم أعمالها الصناعية وبدائع النقش والرسم. وبفضل هذه المباراة اغتنت المدن والقرى من معاهد البديعة فكنت ترى الكنائس الكاتدرائية في كل مكان تناطح الجوزاء والقصور تسمو من الأرض إلى الأجواء.
وانتشر في شبه جزيرة ايطاليا ميل حقيقي للجمال فحدث منه ازدهار الفنون التي لم تزل تيهرنا إلى اليوم فكان هذا العهد مناسبا لتكوين أعاظم الرجال ليستطيعوا أن يحثوا أعمالا غريبة باقية وكان للقديسة كاترين ديسين والقديس توما دي أكيك والقديس فرانسوا داسيز في القرنين الثالث عشر والرابع عشر اثر يذكر في السياسة والعلم فكانت هذه النهضة الايطالية الأولى متشبعة بالفكر الديني إلا أنها كانت تحوي في مطاويها بذورا انبتت بعد النهضة الثانية.
وقام على الأثر الشاعر دانتي الايطالي واضع أساس اللغة الايطالية الحديثة واخذ ينادي في شعره ونثره بفصل السلطتين المدنية عن الدينية. ينطق في ذلك بلسان طبقة كبيرة في عصره فلم يكد يصرخ صرخاته حتى جاوبه على الأثر أرباب الأفكار الحديثة ممن اخذوا ينزعون ربقة الدين بل ينحون على جوهره. وكان في هذا القرن أناس من أرباب الفنون الجميلة يؤمنون بما يصورون ويريدون به خدمة الدين ومنهم من كانوا يصورون وينقشون حبا بالمجد والشرف والمال خصوصا وهم يرون كم كانت أسرة ميدسيس إذ ذاك تغدق الهبات على أرباب تلك الصنائع. حتى لقد قيل أن رافاييل المصور رفض انيكون بابا واثر العمل بالتصوير. وهذا العصر يسمونه بعصر ليون العاشر الذي كان من أكرم الباباوات وأكثرهم علما وعصره كعصر أغسطس قام فيه أرباب الأفكار الحديثة واخذوا يشرون من طرف خفي بتحكيم العقل في المسائل فأصبح أهل العلم والأدب مرغوبا فيهم أكثر مما يرغب في الأمراء. وساعدهم اختراع الطباعة إذ ذاك فاخذوا يبثون أفكارهم في روح القوم على صور مختلفة حتى غدا أمثال بوج وفيللف وارتين الحاكمين المتحكمين بالافكار في عصرهم يصرفونها كما يشاءون.