فأجيب إلى ذلك وكمل الكتاب في مجلد صالح وخرج به احمد بن نصر إلى الحكم المستنصر فلقيه بالمجلد بطليطلة فسر الحكم به. والله اعلم كم أعطاه مكافأة عن تعبه.
قال ابن المعتز في طبقات الشعراء: أجود ما قاله مروان بن أبي حفصة قصيدته الغراء اللامية التي فضل بها على شعراء زمانه يمدح فيها معن بن زائدة الشيباني ويقال انه اخذ منه عليها مالاً كثيراً لا يقدر قدره ولم ينل احد من الشعراء الماضيين ما ناله مروان بشعره فمما ناله ضربة واحدة ثلاثمائة ألف درهم من بعض الخلفاء بسبب بيت واحد ويقرب من ذلك ما ناله أبو الطيب المتنبي من مكارم سيف الدولة بن حمدان فانه اغتنى بشعره ولا اغتناء زولا وروستاند وغيرهما من أدباء الفرنجة لعهدنا.
وليس رزق الفتى من فضل حيلته ... لكن جدود وأرزاق بأقسام
كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي
حكا ابن جلجل أن أبا بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب صنف لمنصور بن اسحق ابن احمد بن نوح من ولد بهرام جور صاحب كرمان وخراسان كتاباً في إثبات صناعة الكيمياء وقصده به بغداد (وكان بنو سامان يحبون العلم ويكرمون العلماء) فدفع له الكتاب فأعجبه وشكره عليه وحباه بألف دينار وقال له أردت أن تخرج هذا الذي ذكرته في الكتاب إلى الفعل فقال له الرازي: إن ذلك مما يتمنون له المؤن ويحتاج إلى آلات وعقاقير صحيحة والى إحكام صنعه ذلك كله وكل ذلك كلفة فقال له منصور: كل ما احتجت إليه من الآلات ومما يليق بالصناعة احضره لك كاملاً حتى تخرج ما ضمنته كتابك إلى العمل فلما حقق عليه ذلك كاع من مباشرة ذلك وعجز عن عمله فقال المنصور: وما اعتقدت أن حكيماً يرضى بتخليد الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة يشغل قلوب الناس بها ويتعبهم فيما لا يعود عليهم من ذلك منفعة ثم قال له قد كافأناك على قصدك وتعبك بما صار إليك من الألف دينار ولا بد من معاقبتك على تخليد الكذب فجمل السوط على رأسه ثم أمر أن يضرب بالكتاب على رأسه حتى ينقطع ثم جهزه وسير به إلى بغداد فكان ذلك الضرب سبب نزول الماء في عينيه.
هذه أمثلة قليلة مما كانت عليه حالة العلماء والأدباء في عصور ارتقاء العرب على أن الحال لم تكن تخلو من بائسين ومفلوكين (راجع الفلاكة والمفلوكين للدلجي) من العالمين