وخمسمائة فاشتغل بالنسخ بالأجرة وحصل بالمطالعة فوائد ثم أن مولاه ألوى عليه وأعطاه شيئاً وسفره إلى كيش ولما عاد كان مولاه قد مات فحصل شيئاً مما كان في يده وأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً.
وبهذا سهل على ياقوت أن يطوف الشام والعراق والجزيرة وخراسان واستوطن مرو ثم دخل خوارزم وغيرها ولقي من الشدائد والمصائب ما يلقاه في العادة أرباب الأفكار. منها أنه ذاكر يوماً أحدهم في بعض أسواق دمشق وذكر له رأيه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكان منحرفاً عنه بما علق في ذهنه من مطالعة كتب الخوارج فثار الناس عليه وكادوا يقتلونه وبلغ أمره الوالي فطلبه فلم ير بداً من الفرار ولسان حاله ينشد قول الوزير ابن زيدون وقد فرَّ من قرطبة
فررت فإن قالوا الفرار أرابه ... فقد فرَّ موسى حين همّ به القبط
غادر دمشق سنة 613 كما غادر خوارزم يوم أتاها التتر لا سبد له ولا لبد متخلياً عن كل ما ملكت يمينه. خرج من بلد ذكر فيه رأيه وربما كان إيراده له بالاعتدال لأنا لم نر ما قاله هو أو بعض المنصفين في هذه الكائنة. فاعجب لأمة يلعن على منبرها الخليفة الرابع نحو ألف شهر من دون حرج ولا نكبر ويجيء بعد قرون من يذكره بالأدب من الوجهة التاريخية في تلك العاصمة نفسها فتقوم عليه القيامة فما أسرع تبدل الأخلاق والأحوال في القرون والأجيال. من النصب إلى التشيع ومنه إلى غيره من المنازع والنحل.
كان الأدب والتاريخ وتقويم البلدان أو الجغرافيا هي العلوم الغالبة على ياقوت وفي الجغرافيا برّز وبذَّ لأنها تتوقف على كثرة الاطلاع والرحلة وهما كانا ديدنه ودينه وما ألفه من الكتب هو من أرقى ما جادت به القرائح في عصره وبعده وإن جاء عرضاً في بعضها ما يعده علماء العصر من قبيل الخرافات مثلاً فإنه كان من لوازم عصره. والعلم والمعتقدات في عهدنا لا تشبه العلم والمعتقدات في عهده. على أن ما صنفه لا يزال إلى اليوم معتمداً ومعدوداً من الأمهات الطيبات وكتابه الذي اشتهر به لعهدنا خصوصاً معجم البلدان كما أن له كتاب معجم الشعراء ومعجم الأدباء - وهذا يطبع الآن في مصر كما طبع معجم البلدان فيها ثانية - وله كتاب المشترك وضعاً والمختلف صقعاً وكتاب المبدأ والمآل