اللغات من أحكم الصلات بين البشر ومن أقوى عوامل النهوض والارتقاء وعلى نسبة انتشار لغة الأمة يكون نفوذها في سياستها وآدابها وصناعاتها وكل أمة زهدت في لغتها أو تخلت عنها ولم تجر في ترقيتها مع الزمن تغلب على أمرها ويفنى كيانها. يقول أحد العارفين إذا استعبدت أمة ففي يدها مفتاح حبسها ما احتفظت بلغتها. وكان نابليون يقول علموا الفرنسية ففي تعليمها خدمة الوطن. وباللغة قامت الوحدة الأميركية والإيطالية واليونانية والألمانية والصربية والرومانية والبلغارية فنجت هذه الأمم بلغاتها من استعباد عداتها.
جاء القرآن على ما فيه من قواعد التشريع والاعتبار بالأمم الخالية حاوياً قاعدة من أهم قواعد العمران وأعني بها الدعوة إلى توحيد اللغة فقضى على كل مسلم على اختلاف الأجناس أن يتعبد بالقرآن ويتلوه بلغته الأصلية فانتشرت بذلك العربية في القاصية والدانية وأخذ ابن الصين يتفاهم مع ابن مراكش بالعربية على بعد الديار.
ولقد قامت الحكومات الإسلامية على اختلاف لغاتها بهذه اللغة وجعلتها لغة دواوينها وكتبت بها رسائلها وخطبها ومراسيمها. فجعلت حكومات الفرس والديلم والترك والبربر والكرد والجركس لغة العرب لغتها ولم تتخلف عن هذه القاعدة في العصور المتأخرة إلا بعض الحكومات جعلت كل منها لغة أسرتها المالكة لغة رسمية لبلادها فاستغرب هذا منها حتى خاصة أهلها.
كان يرجى لمصر أن تكون كعبة العربية في العهد الأخير يحج إليها الطلاب من أقطار العالم لو جاء بعد محمد علي رأس الأسرة الخديوية من أنجز العمل الذي كان وضع أساه وتوفر على تعهد النبتة التي غرسها وأعوانه من الإفرنج في بث ملكة العربية ونقل العلوم الضرورية إليها من لغات الأعاجم ولو دامت تلك النهضة سائرة سيرها الأول لكان لمصر حضارة عربية صرفة لم تمازجها عجمة الإفرنج.
نعم إن تعلم لغة قوم تحببهم إلى نفس المتعلم في الغالب فمن تعلم الفرنسية كان محباً للفرنسيين ومن أحكم الإنكليزية شغف بالإنكليز ومن شدا الألمانية أعز الألمان ولكم رأينا أوربياً تعلم العربية فأصبح يكرم العرب ويغار على مصلحتهم وآدابهم وبلادهم ولا غيرة ابنها العربي البحت.