أيقنت الأمم التي كانت تحرص في أوائل القرن التاسع عشر عَلَى الانتصار في ميدان الهيجاء إن المصالح الاقتصادية أهم المصالح وأكثرها نفعاً فأخذت تعمل لتوسيع نطاق تجارتها وأعرضت عن توسيع مساحة بلادها. ولا مشاحة في أن تقدم الأمم ونجاحها في حالتي السلم والحرب ومضاء حكمها ونفوذها في البلاد الابتدائية لا يكون إلا بالمال وما يقوم به من الأعمال التجارية والصناعية.
تقحمت الدول في القرن العشرين حرباً ضروساً لفتح مصادر جديدة لمحاصيلها المتزايدة يوماً فيوماً في جميع أنحاء المعمورة بفضل الصناعات الكبرى أعني الصنائع التي تكون بالألوف المؤلفة من رؤوس الأموال وتضم الألوف من العمال تحت سقوف المعامل الفخمة وهكذا أخذ أرباب الصناعة والمستثمرون يبحثون البحث الدقيق عن أسواق البلاد في كل قطر ومصر. وكان النصر في حلبة هذه الحرب حليف الفئة التي أعدت السلاح الأقوى والأسباب المؤثرة فنشأت من ذلك لأمتهم مكانة اقتصادية بين الأمم لم تكن لتحلم بها قبل عشرين عاماً أو ثلاثين.
إن أميركا التي كانت تستحصل دون أن تعنى بتصريف محاصيلها وبيعها إلى عهد غير بعيد أحست بلزوم الحيد عن سياستها القاضية بسد أبواب التجارة حتى أن أحد المفرطين في التشديد بأصول حماية الصناعة والتجارة صرح لأمته في خطبة ألقاها قبل وفاته ببضعة أيام أنه لا بد من توسيع نطاق التجارة وعقد العهود مع بعض الدول توصلاً لهذه الغاية وفتح خلات في أبواب الجمارك المسدودة.
وليست أمة الأميركان وحدها في حاجة إلى المبادلة التجارية بل جميع أمم الأرض المنتجة مضطرة لمبادلة محاصيلها زراعية كانت أو صناعية. وليس الاستحصال غاية وإنما هو واسطة والمستحصلون لا يستحصلون لأنفسهم بل للانتفاع بما هوز أحوج إليه من ثمرات أعمال غيرهم عن طريق المبادلة ومكانتها ورواجها متناسبان مع مكانة المصادر ووفرتها وتحقيق ذلك من واجبات التجار مباشرة وأما الحكومة فلا ينتظر منها إلا إبلاغ التجار ما يتصل بها من الأخبار بواسطة قناصلها والذب عن حقوق رعاياها في البلاد الأجنبية وأن لا تمس قوانين وأنظمة تمس حرية التجارة وأن تقيم قوتها مقام قوى الأفراد حيث تكون الأمة متأخرة في العلم والتجارة وأن تكون لهم خير دليل فيما يمكن أن تكون.