كل منن ألقى نظرة إجمالية على تاريخ القرون الوسطى والقرون الحديثة في هذه البلاد يوقن بأن القرون الأخيرة أي القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر كانت أشقى العصور على هذه البلاد لا حكم فيها إلا للقوة لا عدل يحييها ولا علم ينهضها وخصوصاً في الأيام التي سادت فيها حكومة الاقطاعات وساد معها جيش الإنكشارية (يكى جري) أو العسكر الجديد فكل ما تراه عينك في دمشق مثلاً من بيوت ضيقة متلاصقة وأرتجة واطئة وأحياء لا منفذ لها وقصور ومدارس في الضواحي خربة إنما نشأ من اعتداء هذا الجيش على أفراد الرعية المسكينة وما نجا من أيديهم يتناوله الظلمة من الحكام ويصادرونه ويستصفونه هنيئاً مريئاً لا وازع يزع ولا إدارة منظمة: أحكام في الدمار مسمطة وقواعد في السياسة معسلطة وآراء في جلب المصالح ودرء المفاسد مخلطة مغلطة.
ولقد وقع غلينا مخطوط نافع أورد فيه مؤلفه بالعرض في جملة قصائده بعض ما شاهد في عصره من الكوائن فأحببنا نقلها إلى هذا المعنى دلالة على القضية التي قررناها آنفاً ولتكون متممة لتاريخ هذه الحاضرة. وهاك ما ورد في هذا المعنى بمناسبة مدحه لأحد حواشي سليمان باشا ابن المعظم (والي الشام إذ ذاك) قال: واتفق لهذا الممدوح قصة من غرائب القصص وهي أنه سعى في خلاص جماعة من أهل حيه وغيرهم من القتل وفداهم بنفسه ودافع عنهم عند والي الشام بما استطاع وسلموا من الهلاك بسبب مدافعته عنهم وفر قوم من دمشق خوفاً من واليها وأوقع الوالي القتل والنهب بقوم آخرين ظفر بهم في دمشق ثم أن الوالي خرج من دمشق أميراً بقافلة الحج وخرج معه هذا المذكور حاجاً ومؤدياً ما عليه من خدمة السلطان في طريق الحج فلما وصل الأمير والحاج إلى المزيريب رجع أولئك النفر الذين فروا من الوالي بعد أن أرسلوا مكاتبة إلى جيران هذا الذي سعى في خلاص أكثرهم من القتل تشتمل تلك المكاتبة على أنهم في ليلة كذا يرجعون ويدخلون دمشق بقصد انتهاب دار هذا المذكور وقتل من يظفرون به من أهاليه وقراباته فأجابهم كل من كاتبوه بذلك بالسمع والطاعة وأنهم سيكونون لهم عضداً وعوناً على ما يبيتوا عليه وأرادوه من السوء بهذا الأمر الذي عزموا على فعله فلما كانت الليلة الموعودة دخل أولئك النفر الفارون دمشق ومعهم نفر من النصارى والدروز والأشقياء أعداء الدين والمسلمين ولما وصلوا إلى القرب من الدار المقصودة بالسوء تلقاهم الناس بالترحيب وتحزب معهم