الخواطر. وعندنا أنه مصيب وأكثر رجال السياسة والتدبير وأهل العلم والخيال وأرباب الاختراع والفنون يفضلون الليل على النهار ويختصونه للمهم من أعمالهم والصعب من شؤونهم والتفكير فيما يصلح من أمورهم وينبه من أقدارهم وفيه غالباً أنشأ المؤلفون الكتب وحبروا الرسائل وولدوا المعاني الحسان وأودعوها أسلاك كلامهم تباهي النجوم ضياء والدر نظاماً والروض زخرفاً وجمالاً_وإن كان ذلك مدعاة لإضناء أجسامهم واخترام أعمارهم فإن السهر ولا جرم مدعاة للسقم ومدرجة للألم وقد طالما عبث بالعقول قبل الأجساد فأوصل إليها الفساد_فالشاعر الماهر والكاتب المتأنق من إذا خلا إلى حجرته وقد سدل الليل ستاره وسكنت ضوضاء الناس واستولت سنة النوم على أجفانهم نشط إلى ما هو ميسر له من الأمر وباشر عمله بعد إمعان الفكرة وإطالة الروية واستيحاء السليقة فيستمد من القريحة عفوها وفيضها غير مستند إلى معنى لغيره يتلاعب به أو قول لبعض السلف ينتحله موقناً أن الناس كافة قيمون له منتقدون لأقواله تفرغون لتزييف كلامه وتفنيد نظامه ووزن معانيه وألفاظه بميزان المتعنت عليه المتبرم به الطالب حجة يتذرع بها إلى تنقيصه وتسوئته والحط من فضله ثم يكتب وهذا التحوط نصب عينيه مائل لديه فلا يجود إلا من مائه ولا يسبك إلا من معدنه بلا اغتصاب ولا استكراه حتى إذا فرغ مما حبر تربص إلى أن تهدأ سؤرة إعجابه فيما راق له من مبتكرات معانيه ومسبوكات قوافيه_وقد يجمل أن يكون ترصه هذا يوماً أو أياماً_ثم يعود بعد ذلك_وقد سكنت القريحة وخلا الذهن وصح التأمل_فيراجع ما كتب مراجعة منتقد ذاته قيم على نفسه رقيب على عمله فإن وجد محلاً للإصلاح أتاه أو وجهاً للتهذيب والتنقيح مارسه وعاناه متخيراً اشرف الألفاظ وأخفها وأكثرها قرباً إلى الفهم وتداولاً على الألسنة يدمجها في تضاعيف سطوره على منوال خاص وأسلوب غريب يعرف به وتظهر ملكته في أنفاس كلامه بحيث ينسبه القارئ العارف به إليه بمجرد تلاوته ولو لم يكن معنوناً باسمه ثم يعرضه على من يثق به من جهابذة الأقلام لعله يرى فيه عورةً فيسترها أو ثلماً فيسده فمن سلك هذا المسلك الجدد من مجيدي الشعراء والكتاب أمن في غالب منشآته العثار وحق له الاشتهار.
تلك نصيحتنا نوصي بها ونحرص على الجري بمقتضاها وإن كنا خالفناها في كل منظوماتنا حتى اليوم على ما يعلمه المقتطف ونبه إليه فإننا كنا ننظم في ليلتنا القصائد